بيوت الرحمة في قبضة الإرهاب
من كان على علمٍ بوضعِ المشافي في مدينة حلب قبل سنوات الحرب التي شُنَّتْ على سورية عام ٢٠١١ م لابد وأنه سيقفُ مُندهِشاً مما آلتْ إليه بعد الحرب.
فمدينة حلب قبل الحرب حَقَّقَتْ كثيراً من الشروط التي تدْفَعُ الجميعَ للإعجاب بسرعةِ حركتها نحو التطوّر والتقدّم في مجال الطِّب والطَّبابةِ.
فالعديد من المشافي وصلت إلى مستوًى راقٍ من حيث المهارات الطبية العالية ، وامتلاك الأجهزة والمعدات الطبية الحديثة ، ومنها المشافي العامة التي تقدِّم العلاج للمرضى مجاناً.
مثل مشفى الكندي الذي يُعَدّ من أكبر مشافي الشرق الأوسط التي تُعالِج أمراض السرطان وغيرها ، وكان يَضمّ إضافة إلى ٧٠٠ سرير أفضلَ التقنيات الحديثة والأجهزة المتطورة في الطب والعلاج ، وهذا المشفى العريق تمت سرقة كل محتوياته من قِبَل الإرهابيين ؛ ثم قاموا بتفجيره في أيّار ٢٠١٤ م.
ثورة خرقاء على الغذاء والدواء
وهذه الجريمة مثال يّوَضِّحُ حقيقة الإرهاب الذي أراد إيقاف مسيرتنا نحو التطور ؛ وأراد اقتلاع جذور حضارتنا الراسخة في أعماق التأريخ والجغرافيا.
وامتدّت خطط الإرهاب المجرِم لتصلَ إلى كل ما يمكنه أن يساهم في الحفاظ على استقرار المدينة ؛ وأن يؤمّن لمجتمعها ما يدفعه إلى المقاومة والصمود ، فوصلتْ تلك الجرائم لمعامل الأدوية التي وصل عددها في حلب إلى ٣٥ معملاً ، والتي كانت تؤمِّن بشكل فعال الأمن الدوائي على امتداد أرض الوطن والذي لا يقلُّ في أهميته عن الأمن الغذائي.
تهجير العقول
في ظلّ ظروف الحرب الصعبة والمؤلمة اضطرَّ الكثير من أبناء الوطن للهجرة، وتعرّض آخرون للتهجير من قِبَلِ المجموعات الإرهابية، فغادر سورية الكثير من المواهب المُمَيّزَة، والكفاءات العالية من أطباء وممرّضين وصيادلة ومِخبريّين، وطبيعيٌّ أمام هذه المعطيات أن يظهر الخلل والنقص في الجو الطبي والصحي.
وأن تتفاقمَ حالة الاضطراب مع استمرار الحرب لسنوات أهلكت الحرث والنسل ، وأثقلتْ المجتمع بالآلام والمفاسد.
أُولى المُسْتَهْدفات
في مثل هذا المناخ الناتج عن ذلك العدوان الغاشم على أمننا وسيادتنا و آمالنا وطموحاتنا من المحتّم أن تكون القِيَم الحُسنى على رأس قائمة الأهداف التي وضعها الغزاة نصب أعينهم، فهم يدعمون كل ما يمكن أن يُزعزع ثقة الإنسان بالإنسان ، وثقة المواطن بوطنه ؛ وبالمؤسسات التي تجعل هذا الوطن أكثر قوة.
في الحروب الطويلة كما تضطرب دواخل البلاد تضطرب دواخل نفوس ؛ بفعل الخوف أو الضعف أو نتيجة لخلل في الثقافة التي تُقيِّم الواقع ؛ أو نتيجة لنزوع البعض إلى اختيارات سيئة وأنانيّات هدَّامة.
وحكايةُ المُعاناة تبدأُ من لحظةِ وصول المريضِ إلى باب المشفى ؛ لاسيّما إذا كان المريضُ يحتاجُ إلى إسعاف سريعٍ ؛ ولا يقوى على المشي ، فعندَ وصولِه يُترَكُ على باب المشفى ، لا يَعبأُ به أحدٌ من العاملين المُخَصّصِين أصلاً لمساعدة المرضى!!
فَهُم يتباطؤون عن أداءِ واجبهم الوظيفي، وواجبهم الإنساني، فيقوم بمساعدة المريض مرافقوه إنْ وُجِدوا؛ أو بعض الناس ممن لم تُنزع الرحمةُ من قلوبهم، وعندما يصِلُ المريض إلى غرف الإسعاف يبدأ الفصل الثاني من المأساة.
على حافةِ السُّقوطِ
الظواهر السلبية باتت مُتفشيّةً في جو الطب والطبابة بشكل تجاوز حدود التقصير وتطاول ليكون دافعاً للجريمة ؛ ومُبَرِّراً لها ؛ وسبباً لدمارِ المجتمعِ ، فمن لا يملك أجرة عمل جراحيٍّ ضروريّ ؛ هو مُعَرّضٌ لكل الاحتمالات بما فيها التي يمكن أن تأخذَه لارتكاب خطأ أو خطيئة أو أكثر.
ومن لا تملك ثمن معاينة أو دواء لابنها المضطر فهي على حافة سقوط في حفرة من الحفر القاتلة ، فإما ضياع للحق الذي يُفتَرَضُ أن يتقارنَ ويتلازم مع الوجود الإنساني ؛ أو ضياع للكرامة التي تحفظ للنضال الإنساني عزّتَه.
الأمل كبير..
هذا غيضٌ من فيض، وإشارة لنماذجَ من الضوضاء التي تُسيطر على الجو الذي يُفترَضُ أن يكونَ منبَعاً للخير.
أمام تلك التجاوزات وأمثالها التي باتت تُهدّدُ استقرار المجتمع وأمنه وأمانه، وتستخفّ براية الفضيلة؛ ليكن لنا التفاتة إلى ما قبل الحرب لنستحضرَ من الماضي العناصرَ الحيّة التي يمكن أن تعود لها العافية، ولننظر نظرةَ ودٍّ إلى من يحملُ معنا استنكاراً حقيقياً للحصار الاقتصادي الذي فرضته القوى المتآمرة على بلدنا.
وكان سبباً في زيادة حجم الاضطراب الذي انتشر في حياتنا ، ولنبحث عن من تجرَّع غُصص الحصارات الآثمة كما تجَرَّعنا ؛ فهو الأقدر على الإحساس بآلامنا ؛ وهو الأنسب لنتكاتف معاً سعياً للنهوض من جديد بسرعةٍ تُعوِّضُ الزمن الذي كُنّا فيه في حالة التقهقر.
أخي اشدد به أزري
في بحثنا عن شريك يشاركنا الوقوف في وجه المتآمرين على وجودنا ينبغي أن نتجرّد من كل ما يمكن أن يتسلل إلى فكرنا من أكاذيبَ تسعى لإحداث الفُرقة بيننا وبين الشعوب الرافضة لسياسات أمريكا والدوّارين في فلكها فهم يَسْعَون لتدمير عزتنا وكرامتنا؛ لنكون مجرد أدوات لخدمة مصالحهم وأطماعهم في السيطرة والاستعباد، لنسعى لإصلاح القيم التي لم تَنْجُ من مكر الإرهاب.
وهذا يمكن تحقيقه مثلاً بإقامة دورات تثقيفية في المشافي ومراكز العلاج تتلازم مع الدورات التدريبية الطبية لتبثَّ روح الإنسانية من جديد في جسد مجتمعاتنا ؛ ولتقومَ بتوعية جميع العاملين في هذا المضمار.
لنبدأ بتشخيص الخطأ؛ ولنبحث عن دوافعه وأسبابه؛ ونستفرغ الوسع في السعي لإصلاحه، ولنقف وقفة حقيقية تكون مثاراً لانتباه الجميع؛ ليعلم الخاطئ أنه لن ينجو من آثار الخطايا؛ وأن المستقبل يحتفظُ بحق الرد على كل أناني شرير ظالم يحاول رسم صورة مستقبل وطننا بمداد من باطل.