أخبار حلب _ سوريا
في مكان من أجمل أماكن حلب القديمة، خارج أسوار المدينة، تحديداً في محلة “الجديدة” تقع كنيسة “الأربعين شهيد” للأرمن الأرثوذكس، والتي يميزها الكتابة الجدارية الشاهدة على أنّ الكنيسة بنيت سنة 1501 ميلادي أيام كاثوليكوس الأرمن “هوفانيس” لكرسي “بيت كليكيا الكبير”.
حيث غدت منذ القرن الخامس عشر للميلاد المركز الروحي والمقر الرئيسي لأبرشية حلب وتوابعها للأرمن الأرثوذوكس ومقر الكرسي الأسقفي وعلى مدى القرون استقبلت “جثالقة” بيت كيليكيا من “سيس” الذين قاموا بمباركة الميرون المقدس فيها عام 1849 – 1923 ميلادي ورسامة أساقفة “جثالقة” أيضاً.
القصة التي تكمن وراء تسميتها
قد سميت الكنيسة الجديدة باسم القادة الشهداء الأربعين من مدينة “سيواس” الذين لقوا الشهادة في القرن الرابع الميلادي دفاعاً عن إيمانهم المسيحي. إذ أن القيصر “لوكينيوس” قيصر الرومان الشرقيين “البيزنطيين” لما سمع أن هناك 40 شخصاً اعتنقوا المسيحية، قرر أن يردهم عنها، فلما رفضوا قرر أن يضعهم في مياه متجمدة في منطقة “سباستيا” الباردة حتى الموت، فنالوا البر والشهادة، ومن ثم قام القيصر بحرق جثثهم بعد انتشالها من البحيرة من فرط حقده تجاههم، وذلك في القرن الرابع الميلادي في “سباستيا” ويعتقد أنها تزين جدران الكاتدرائية منذ أكثر من ثلاثة قرون.
هذه الكنيسة التي تنتصب “كاتدرائية الأربعين شهيد للأرمن” لأكثر من خمسمائة عام كان الموقع القديم لها مقبرة للمسيحين ضمت معبداً صغيراً يعتقد بأنه شيد في القرن الخامس عشر للميلاد، ويوجد بجوار المعبد التاريخي المقبرة البدائية للأرمن في حلب، حيث دفن فيها عدد من كبار رجال الدين والأعيان الأرمن، كما تم نقل أحجار الصليب “خاتشكار” التي تزين هذه المقبرة إلى داخل الكاتدرائية وتثبيتها على أحد الجدران مع المجموعة الفخمة من الأيقونات التي تضمها الكنيسة.
أهم الأحداث التي طرأت على الكنيسة
جرى توسيع المعبد التاريخي للمرة الأولى 1499- 1501 ميلادي بمساهمة المحسن الحلبي الأرمني المدعو “الريس عيسى”، وفي أيام المطران “خاجادور كاركاريتسي” توسعت الكنيسة مرة ثانية وأخذت شكلها الحالي المؤلف من قناطر جميلة تزينها المذابح الثلاث وذلك بمساهمة المحسن أيضاً؛ شارف آنذاك على الأعمال الإنشائية أخوه “سانوس جلبي” وهنا تجدر الإشارة بأنه أثناء هذا التوسيع تمت المحافظة على المعبد القديم للكنيسة.
وفي عام 1616م شهدت الكاتدرائية عدة توسعات، حيث كان الأول في الفترة الممتدة ما بين الأعوام /1499 – 1500م/ في الجهة الغربية من المصلى التاريخي، ومن ثم توسعت للمرة الثانية في العام /1616م/ دون المساس بالمصلى التاريخي وما نتج عن التوسع الأول.
كما بني جرن المعمودية سنة 1888 ميلادي ونفذ برج الجرس في فترة الممتدة ما بين السنين 1912 و1929 ميلادي.
وفي عام 1989 ميلادي شيد في باحة الكاتدرائية نصب تذكاري تخليداً لذكرى شهداء الأمة الأرمنية الذين ذهبوا ضحية جريمة إبادة العرق الأرمني التي ارتكبتها أيادي العثمانيون الأتراك سنة 1915 في متحف “زاريهيان” الذي يضم كنيسة رائعة من التراث الأرمني العريق.
وصف الهيكل التاريخي للكنيسة
وبالنسبة لوصفها، فإن مخطط الكنيسة الحالي على شكل بازيليك مؤلف من خمس مجازات غير متساوية، حيث يقع الهيكل الرئيس في الجهة الشرقية وأمامه كرسي المطران وهو مصنوع من خشب الأبنوس ومزين بالصدف ترتفع فوقه قبة مفصصة يزين قاعدتها أيقونات تمثل الرسل الاثنى عشر وفي الجهة الغربية طابق علوي “علية – شرفة” يجلس فيه الكورال لتأدية التراتيل الدينية.
ويتم الدخول إلى الكنيسة عبر بابين في الجهة الجنوبية يؤديان إلى باحة خارجية تحيط بها الأبنية من الجهات الثلاث الأخرى، ويتم أيضاً الدخول إلى الكنيسة من الباحة من الجهة الجنوبية للمبنى.
وبعد المدخل وإلى اليمين نجد المصلى التاريخي الذي يرقد فيه “جثالقة” الأرمن وهذه الكلمة تعني “بالشخصيات ذات المرجعية الدينية العظيمة” وهو الهيكل الأصلي للكنيسة وتقام عليه الذبيحة الإلهية مرة واحدة في السنة في “عيد الأربعين شهيد” في منتصف شهر الصوم الكبير والتي هي ما بين شهري شباط وآذار.
وإلى اليسار كان هناك عرش المطران “أو الكرسي الأسقفي” الذي شيّد في العام 1773م وعليه العديد من النقوش والرسومات، ويزين الكرسي من الأعلى رسومات تمثل الحواريين الاثني عشر.
أما داخل الكنيسة، وما يلفت النظر وجود أحجار مزخرفة تدعى هذه الأحجار في اللغة الأرمنية “خاتشكار” وهي أحجار الأضرحة تم وضعها هنا خوفاً عليها من الضياع والتلف، حيث تم وضعها هنا قبل التوسع الثاني الذي تم في الكنيسة، ويأتي بعدها التوسع الثاني الذي أنشئ في العام 1616م، وتقام الذبيحة الإلهية ضمنه يومي الثلاثاء والأحد صباحاً.
في حين تكون سقوفها أقبية متقاطعة تستند على دعامات مربعة والأروقة الثلاث الشمالية أضيفت عام 1616م.
ما هي أهم أيقونات الكنيسة؟
تحتوي الكنيسة على أيقونات رائعة هي:
1- أيقونة “الدينونة الأخيرة” الكبيرة الحجم
والتي تعد من الروائع.. رسمت عام 1708 م من قبل القس “نعمة الله يوسف حنانيا” وتمثل هذه اللوحة يوم الحساب حيث يوجد “السيد المسيح” في الأعلى مع “السيدة العذراء” و”القديس يوحنا المعمدان” ومن ثم في المنتصف الحواريون، ونرى في أسفلهم مشاهد تمثل جزاء كل من الأبرار والكفار بحسب عمل كل فئة وما تتضمن من نعيم الجنة وعذاب جهنم.
2- أيقونة “مريم العذراء”
تم رسم هذه اللوحة من قبل أحد فناني عصر النهضة وهي تمثل السيدة “العذراء” مع كل من “السيد المسيح” و”يوحنا المعمدان”.
3- أيقونة للقديس “نرسيس شنورهلي”
أحد كبار “الجثالقة” الأرمن في القرن الثاني عشر.
4- أيقونة القديس “إليان الحمصي”
الشهير باسم “مار بهنا” وهو من مدينة “حمص” ومن القديسين.. رسمها الأب “مكرديج” ويعتقد أنها تعود إلى القرن السابع عشر.
5- أيقونة “القديس يعقوب”
بطريرك منطقة “نصيبين” التي تقع ما بين “سوريا” و”العراق” وهو من آباء المسيحية في القرن الرابع.
6- أيقونة الأربعين شهيد
وهم جنود رومان آمنوا بالسيد المسيح سنة 320م بعد معاهدة “ميلانو” والتي نصت على احترام حرية المعتقد.
7- أيقونة “مار سركيس”
هو جندي روماني اعتنق المسيحية فتم اضطهاده من قبل “يوليوس قيصر” ليرحل إلى الإمبراطورية الفارسية وليقتله “كسرى الفرس” لدعوته له إلى الإيمان ولرفضه الارتداد عن المسيحية وعبادة الأوثان.
8- أيقونة معمودية “السيد المسيح”
في نهر الأردن على يد القديس “يوحنا المعمدان” رسمها الفنان “جرجس بن حنانيا المصور” أهديت إلى الكاتدرائية عام 1756م.
9- أيقونة “سجود المجوس”
يعتقد أنها تنتمي إلى مدرسة البندقية وربما يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر للميلاد.
وإلى جانب أيقونة “الدينونة الاخيرة”، يقع “جرن المعمودية المقدسة” الذي أنشئ في العام /1888م/.
كما تحوي الكاتدرائية العديد من القطع الأثرية الأخرى المهمة للغاية مثل:
• “كأس القربان المقدس من الفضة والمطلي بالذهب” والذي يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي،
• و”صليب الطواف” الذي يعود إلى القرن الثامن عشر.
• و”صليب هيكل” من الفضة والذي يعود على القرن السابع عشر.
وبالإضافة إلى ذلك يوجد فيها متحف “زاريهيان” الذي يضم آثاراً كنسية رائعة من التراث الأرمني العريق وغيرها من الآثار الكثيرة ضمن ثناياها.
وتجدر الإشارة إلى أنه تم إنشاء العرش الأسقفي فيها سنة 1733 ميلادي بينما رممت الكاتدرائية ترميما كلياً سنة 1843 ميلادي، ورممت مجدداً مع بعض أقسامها في النصف الثاني من القرن العشرين للميلاد.
وختاماً
كانت الكاتدرائية مركزاً مشهوراً لكتابة المخطوطات الأرمنية حيث نسخ فيها خلال القرن السابع عشر مجموعة كبيرة من المخطوطات القيمة والأناجيل والكتب المقدسة نجد بعضها في لندن وفينيسيا والقدس وارمينيا.
وخلال الـ 500 سنة الماضية، أضحت كنيسة الأربعين شهيد بتاريخها ورسالتها شاهداً حياً على إيمان الأرمن في حلب وآلامهم وازدهارهم ونهضتهم وإبداعاتهم. وفي كل عام، يتم الاحتفال باسم الكنيسة بشكل رسمي.
تابعنا عبر منصاتنا :
تيلجرام Aleppo News
تويتر Aleppo News
أنستغرام Aleppo News