كثُرت في الآونة الأخيرة تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومستشاروه وأدواته الإعلامية والتحليلية ومسؤولون أتراك آخرون والتي بدأت منذ آب الماضي على وجه الخصوص.
وهي تتعلق بمسار المصالحة مع الجمهورية العربية السورية وتطبيع العلاقات بين البلدين والرغبة في عقد لقاء قمة بين الرئيسين التركي والسوري.
وجاء ذلك في وقت التزمت دمشق فيه الصمت إلا من تصريحات عامة ومقتضبة أطلقتها مؤسسات رسمية كانت معنية بإصدار بيانات ضرورية في إثر خطوات جرت على هذا الصعيد.
ومن ذلك البيان الذي أصدرته وزارة الدفاع السورية عقب اللقاء الثلاثي الذي جمع وزراء دفاع البلدين ووزير الدفاع الروسي في العاصمة الروسية موسكو في 28 من شهر كانون الأول المنصرم.
ولهذا الأمر دلالات عديدة ومهمة يأتي في مقدمتها ما يتعلق بشخصية أردوغان نفسه.
حيث أدرك الرئيس التركي ظروف الصراع الدولي الحالي الذي أنتجته الحرب الأوكرانية وقدرة أنقرة على التأثير فيه من خلال موقعها وأدوارها السياسية والعسكرية والاقتصادية الممكنة والمؤثرة.
لاسيما حقيقة أن دمشق باتت إحدى ساحات هذا الصراع في ظل وقوف الأميركيين والروس وجهاً لوجه في هذا الميدان بكل ما يعنيه ذلك من سعيٍ لدى الطرفين لإحراق أحدهما أوراق الآخر وطرده من هذه الجبهة أو إفشال خططه ومشاريعه فيها ثم معاناة دمشق الأليمة من حصار خانق أطبق على جميع نواحي الحياة في البلاد.
وقد اعتقد أردوغان أن هذا كله قد يُمكّنه من طرح خططه الجديدة التي من المفترض أن يحصد ثمارها بسرعة في الداخل التركي وهو على أبواب الانتخابات الرئاسية التي يواجه فيها تراجعاً كبيراً في شعبيته وانتقاداً واسعاً لسياساته في سوريا.
خصوصاً ما يتعلق بمشكلة اللاجئين السوريين الذين تحولوا إلى عبء اقتصادي واجتماعي واضح التأثير في الداخل التركي.
وكذلك الأمر على مستوى الصراع التركي مع الكرد الذي اتخذه أردوغان عنواناً رئيسياً لخطته تلك بعد تهديده بشن عملية عسكرية واسعة في الشمال والشرق السوريين يقضي فيها على ما يسميه “الإرهاب الكردي” ويطرد المجموعات الكردية إلى ما بعد 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية.
وفي السياق ذاته ينشئ ما يسمى “منطقة آمنة” يُفرغ فيها مشاكله المتعلقة باللاجئين، ويتخذها منطقة نفوذ مباشر من خلال تثبيت الفصائل المسلحة والمجموعات السياسية السورية المعارضة التابعة له في تلك المنطقة.
ليُشبه بذلك ما فعلته واشنطن في الشرق السوري من خلال استخدامها أتباعها الكرد وفلول تنظيم “داعش” الإرهابي.
من جانب آخر يدلّ هذا الأمر أن دمشق التي تشهد منذ 4 سنوات إلى الآن أقسى ضائقة اقتصادية ومعيشية عرفتها البلاد منذ الاحتلال العثماني ولم تتزحزح قيد أنملة عن ثوابت سياساتها الوطنية وأن الحصار الخانق الذي من المفترض أن يدفعها إلى تلقف ما يرى إردوغان أنه “طوق نجاة” تركي.
والجدير ذكره أن دمشق لم تتأثر مطلقاً في قراراتها الإستراتيجية والسيادية ولم تُزغ تداعياته الكارثية بصرها عن حقيقة أن أردوغان نفسه هو من يطلب ذاك الطوق من دمشق وأنها ليست في وارد إنقاذ أحد سوى سيادتها على أرضها وانتزاع حقوقها ارتكازاً على مخرجات الصراع نفسه التي حققت فيها مع حلفائها الإيرانيين والمقاومين والروس النتائج الذي أفضت إلى الخطة التركية القسرية.
لذلك انتظر السوريون طويلاً وهم يراقبون سيول التصريحات التركية ويستمعون إليها جيداً، قبل أن يتحدثوا بكلام رسمي واضح ومباشر وصريح وذلك بعد لقاء الرئيس السوري بشار الأسد المبعوث الروسي الخاص ألكسندر لافرنتييف في 12 كانون الثاني حيث وضع الرئيس الأسد النقاط على الحروف أخيراً، من خلال تأكيده أن هذه اللقاءات بين الجانبين.
ولكي تأتي بنتائج مثمرة، “يجب أن تُبنى على تنسيق وتخطيط مسبَقين بين سوريا وروسيا، من أجل الوصول إلى الأهداف والنتائج الملموسة التي تريدها سوريا، انطلاقاً من الثوابت والمبادئ الوطنية للدولة والشعب، المبنية على إنهاء الاحتلال ووقف دعم الإرهاب”.
هذا يفيد أن دمشق ما تزال عند شروطها الأولى التي وضعتها في مقابل تحقيق تقدم في العلاقات بين البلدين، والتي تتمثَّل بإنهاء الاحتلال التركي للأراضي السورية في الشمال والشرق، والوقف الفوري لدعم المجموعات الإرهابية المسلحة التي تقاتل الدولة السورية والتي تستخدمها أنقرة في تنفيذ أجنداتها على الخريطة السورية.
وتجدر الإشارة إلى أن تصريحات وزير الخارجية السوري فيصل المقداد قد جاءت بعد اللقاء الذي جمعه بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يوم السبت الماضي في دمشق في السياق ذاته تماماً.
حين صرح المقداد أن عودة العلاقات بين سوريا وتركيا غير ممكنة في ظل استمرار الاحتلال التركي ودعم أنقرة للمجموعات الإرهابية.
وخلال الزيارتين الروسية والإيرانية، أكد حلفاء دمشق من خلال تصريحات المبعوث الروسي والوزير الإيراني حق سوريا في بسط سيادتها على كامل أراضيها وثرواتها والثقة الكاملة بالقرارات والمواقف السورية.
وعلى الرغم من استمرار المساعي الروسية والإيرانية الحثيثة لتحقيق تقدمٍ على هذا المسار، وخصوصاً أن اتصالاً هاتفياً مطولاً جرى بين الرئيسين الروسي والتركي يوم الثلاثاء 17 من هذا الشهر، بُحثت فيه التطورات في المسار السوري التركي، وكذلك توجه وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان إلى أنقرة في اليوم نفسه والإعلان المسبق عن نية الطرفين بحث الأوضاع في سوريا فإنَّ التصريحات السورية الأخيرة تركت صداها الواضح في أنقرة.
فمن جانبه أعلن الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين أن العملية العسكرية التركية في الشرق السوري ما تزال خياراً مطروحاً لدى أنقرة وأنها يمكن أنْ تتم في أي وقت للقضاء على المجموعات الكردية وتأمين “الأمن القومي” للبلاد.
معتبراً أن اللقاء المفترض عقده بين وزير الخارجية التركي ونظيره السوري ربما تأجل إلى أواسط شهر شباط المقبل فيما لم يستطع تحديد أي موعد تقريبي للقاء الرئيسين السوري والتركي، وهو ما يكشف أيضاً أن التصريحات التركية التي تحدثت عن لقاء وزاري أواسط هذا الشهر، ثم بداية شباط وقرب عقد لقاء قمة بين الرئيسين كانت اجتهادات تركية مبنية على ثقة أنقرة بحاجة دمشق إلى تحقيق تقدم على هذا الصعيد،
في الوقت الذي كانت دمشق في مكان آخر تماماً، وظلت ثابتة عند شروطها وثوابتها الأولى المتعلقة بهذا الملف.
ويكشف هذا أيضاً احتمال عدم عقد أي لقاء دبلوماسي بين الطرفين، سواء على المستوى الوزاري أو الرئاسي، قبل قيام أنقرة بخطوات عملية في الميدان، تتعلق بالبدء بانسحابات عسكرية من الأراضي السورية، والشروع في تنفيذ خطط ميدانية تتعلق بوضع الفصائل والمجموعات المسلحة التابعة لها.
ولا يبدو أن أنقرة قادرة على الشروع في كل هذا في القريب العاجل، وخصوصاً أن الوقائع الميدانية التي جرت في الأيام الأخيرة تكشف اعتقاد أنقرة بأن بإمكانها المناورة والابتزاز من جديد في الميدان، بهدف دفع دمشق إلى الرضوخ والقبول بالقيام بخطوات سياسية متقدمة من دون حصولها على أثمان حقيقية على أرض الواقع.
وتجلى ذلك في الهجمات التي شنَّتها مجموعات أبو محمد الجولاني الإرهابية (هيئة تحرير الشام) على بعض مواقع الجيش العربي السوري في أرياف حلب خلال الأسبوع الماضي، وقصف قوات الاحتلال التركي المكثف لعدة قرى في ريف حلب الشمالي يوم الجمعة الماضي 13 كانون الثاني.
وبعدها أتى الهجوم الذي شنته مجموعات الهيئة مع مجموعات “الحزب الكردستاني” والمجموعات الألبانية (وكلها مجموعات محسوبة على تركيا بشكل تام) صباح يوم السبت 14 من الشهر ذاته على منطقة خفض التصعيد في ريف اللاذقية عند محور بلدة “نحشبا” والذي أسفر عن استشهاد 3 جنود سوريين ومقتل وإصابة أكثر من 18 من المهاجمين ثم الإعلان السوري عن استشهاد جنديين جراء قصف تركي في شمال البلاد وإعلان أنقرة عن مقتل جندي تركي في قصف على قاعدة للجيش التركي في ريف حلب.
كل هذه الأحداث المهمة تشي بعدم وجود تقدم على المسار الميداني الذي من المفترض أنْ يوازي أو يواكب المسار السياسي والدبلوماسي، ويشير إلى وقوف أنقرة بدورها عن نقطة التصريحات والدعاية الإعلامية، ويدل على صواب موقف دمشق التي ما تزال تُحدد مستوى ثقتها بإردوغان عند درجة الصفر.
ويبقى الجميع بانتظار أنْ تُحقق المساعي الروسية والإيرانية المتسارعة هذه الأيام أي تغيير حقيقي يُرضي دمشق، ومن الواضح أن لدى حليفي سوريا الرئيسييْن النية والعزم لتحقيق ذلك ودفع أردوغان إلى القيام بخطوات عملية تترجم تصريحاته الإيجابية الكثيرة في هذا الشأن.
وما لم يحصل ذلك، فإن الوضع سيبقى على ما هو عليه على صعيد العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين إلى ما بعد الانتخابات التركية التي قد تأتي بجديد ليس في مصلحة إردوغان. وإلى ذلك الحين، تُحقق دمشق وحلفاؤها خروقات مهمة على الصعيد العربي، خصوصاً بعدما قررت إشراك العرب في المسار التركي.
وقد أظهرت ذلك جلياً خلال زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق وإعلان احتمال مشاركته في أي لقاء قادم بين وزراء خارجية سوريا وتركيا وروسيا، وتسرب معلومات عن جهد إماراتي لتحقيق تقدم على مستوى العلاقات العربية السورية وخصوصاً على مسار الرياض والقاهرة.
وتجدر الإشارة إلى أن الإعلان عن السماح بإعادة استيراد البضائع من المملكة العربية السعودية يجري الحديث عنه الآن في الأوساط السورية.