لأكثر من عشر سنوات مضت، شكّلت سوريا ساحة صراع دولي ونواة لتقلبّات سياسية ضخمة نتج عنها تغييرات كبرى في النظام العالمي وتدحرج أجحار الدومينو لانهيار لمنظومة السلطة العالمية من القوة العسكرية، إلى السلطة السياسية، إلى التماسك الاقتصادي.
وتعد الأمسية النارية في دير الزور في ليلة اليوم الثالث من رمضان البارحة تطوراً نوعياً في الصراع بين حلفاء سوريا “محور المقاومة” والقوات الأمريكية المتمركزة في شرق الفرات، حيث تم الرد بجنون على استهداف أمريكا محيط حي هرابش السكني المحاذي لمطار دير الزور العسكري، والذي أدى إلى سقوط شهداء وجرحى ضمن القوات الرديفة للجيش السوري، إذ رآه الكثيرون التصارع الأكبر بشكل مباشر بعد انتهاء مرحلة التجنيد الأمريكي لمختلف أشكال الفصائل المحاربة على الأرض من ألوية وفرق ومجموعات تمترست خلفها الإدارة الأمريكية في مواجهة الحرس الثوري في سوريا والقوات الحليفة والرديفة للجيش السوري.
الصواريخ تمطر، والرادرات الأمريكية لا تعمل!
منذ أن بدأت جولة الهجوم الأولى على القواعد الأمريكية في دير الزور أعلنت صحيفة “نيويورك تايمز” أنَّ وزارة الدفاع الأميركية تطلق تحقيقاً لمعرفة أسباب عدم نجاح نظام الدفاع الجوي الأمريكي الرئيسي في قاعدة التحالف العسكرية في شمال شرق سوريا في التصدي عندما ضربت طائرة إيرانية بدون طيار المنشأة.
وقد أعلنت الصحيفة ذاتها صباح اليوم أنّ “نظام الدفاع الجوي تعرض لهجوم بطائرة مسيرة خلال الساعات الماضية ما أدى إلى خروجه عن الخدمة”، وهي سابقة خطيرة لمنظومة الدفاعات الأمريكية المتطورة إذ تدق ناقوس الخطر في كل القواعد الأمريكية المتواجدة في المنطقة وتعد مؤشراً على عدم قدرة القواعد الأمريكية على الدفاع عن نفسها في أي مكان وجدت فيه خارج حدود أمريكا.
بعد قاب قوسين أو أدنى من الحرب، أمريكا تحتفظ بحق الرَّد!
وباعتبار قاعدة الكونيكو في دير الزور من أهم القواعد الأمريكية في سوريا بحجمها وتجهيزاتها المتطورة، كان ردّ محور المقاومة في سوريا انتقامياً بحساب مفتوح لدرجة توقعات المتابعين باندلاع الحرب قبل أن تنجلي غبار الضربات التي امتدت على طول الضفة الشرقية لنهر الفرات وشملت قواعد حقل العمر، وحقل كونيكو، وقاعدة الشدادي فظهرت راية الأمريكي البيضاء تبتلع ريقها وتهرول لتوقف العد التنازلي للحرب بتصريح أطلقه المتحدث باسم البنتاغون الأمريكي “باتريك رايدر” صارخاً: “نحتفظ بحق الرد على قصف قاعدة “القرية الخضراء” في سوريا”.
والأهم، أن هذه المرة الأولى التي تخلع فيها أمريكا قميص هيبتها وتعلن أنها “تحتفظ بحق الرد” من بين كل المواقف التي وقعت فيها بالخيبة والمآزق جراء عبثها في منطقة الشرق الأوسط سواء عبر تدخلها المباشر أو عبر تحريك الساحات في الظل.
وهذا أيضاً ما كشفه وزير الخارجية الأميركي السابق “بومبيو” حيث قال:
“تمت مهاجمت القوات الأميركية 78 مرة منذ عام 2021 ولم ترد إدارة بايدن إلا على 3 هجمات” وأضاف: “الضعف المستمر لا يؤدي إلا إلى المزيد من العدوانية”.
الفرق بين الاحتفاظ بالرَّد الأمريكي والسوري.
ولعل التساؤل الذي يدور في الأذهان بعمق بعد رد المقاومة البارحة “لماذا يتم لي ذراع الأمريكي بينما يترك الإسرائيلي يسرح ويمرح بعد كل اعتداء ؟!.
حقيقةً إن الجواب على هذا السؤال لا يمكن قياسه بمعايير ما يتم تداوله على الإعلام، فلغة المعركة على الأرض تختلف عن تسارع الموجات الإعلامية بذبذبات التأثير على المزاج العام سواء في الشارع السوري أو الشارع الإسرائيلي.
فأولاً إذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار الرواية الإسرائيلية وهي أن الاعتداء يستهدف تراكم القوة لدى حلفاء سوريا فبذلك يعتبر الاعتداء الإسرائيلي هو الرد على سوريا وليس العكس، وتدل أمسية دير الزور النارية البارحة أن كل الردود الإسرائيلية لم تستطع إيقاف مسار تراكم القوة لدى محور المقاومة في سوريا.
ثانياً:
صحيح أنّ الدولة السورية تعلن رسمياً بالاحتفاظ بحق الرد على مستوى الدولة لكي لا تعطي فتح الجبهة الخارجية مع إسرائيل الفرصة للفصائل المسلحة المجهزين بالسلاح الأمريكي والإسرائيلي والتركي لغدر مواقع الجيش السوري المتوزعة نقاط مواجهته بين جبهة الداخل وجبهة الخارج، ولكن ذلك لا يعني أن الدولة السورية لا ترد من خلال حلفائها على الأرض في سوريا.
فعلاوة على أنه بعد كل اعتداء إسرائيلي على سوريا يتم توجيه ضربات للقواعد الأمريكية، فإن الكيان الإسرائيلي معروف بسياسته في التكتم على تلقي الضربات خشيةً من التدهور النفسي للشارع الإسرائيلي، وإن خرج الموضوع من يده فقد يعلن عن تلقيه ضربة ولكن بعد وقت متأخر كما حدث حين أعلن عن استهداف إيراني لناقلة نفط تعود ملكيتها لإسرائيل في بحر عمان بعد فترة من تاريخ الاستهداف!
بينما في كثير من الأوقات لا يعلن عن كل الاستهدافات التي تطاله أو حتى العمليات الاستخباراتية أو السيبرانية التي يتعرض لها.
الخلاصة
وإن حاولت الحملات الإعلامية إخفاء ذلك، فإن الواقع السياسي والعسكري في سوريا أو في المنطقة أو حتى دولياً يشير إلى أن الطرف الإسرائيلي والأمريكي هو في موقع الانكفاء والإحجام عن الرد سواء بعد عودة جامعة الدول العربية إلى سوريا أو بعد المصالحة السعودية الإيرانية أو بعد التقدم الروسي في الحرب الأوكرانية والتحالف الاستراتيجي الروسي الصيني الإيراني، وانهيار البنوك في الاتحاد الأوربي وأمريكا وعجز إسرائيل فضلاً عن ضبط الوضع الأمني في الداخل ولكن أيضاً عن لملمة ثوران المستوطنين في الشوارع احتجاجاً على حكومة نتنياهو في مشهد اعتبرته الشعوب العربية الربيع العربي الحقيقي الذي طال انتظاره.