في زمننا الحاضر لا يوجد استعمار جاثم على أرض شعب بهذه المدة كما هو حال الكيان الغاصب للأرض الفلسطينية، فمنذ عام 1948 ترزح فلسطين تحت الاحتلال الصهيوني، الذي انتهك حقوقها وأرضها وشعبها، بمباركة دولية ذرفت دموع التماسيح على رواية مذبحة مزعومة لليهود لتمنحهم وعداً على أرض بلا شعب لشعبٍ بلا دولة كما زعموا.
وهنا يظهر دور الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعي أنها وسيط نزيه وصديق للشعب الفلسطيني، لتقدم الوعود تلو الوعود بإقامة الدولة الفلسطينية كجزء من حل الدولتين، ولكن ما حقيقة هذا الوعد، هل هو حقيقي أم كذبة أمريكية؟ وما هي الأدلة والحقائق التي تثبت ذلك؟
حين يكون خصمك القاضي من تقاضي؟!!
مقولة عربية تجد صداها اليوم في جعل الولايات المتحدة الأمريكية هي الوسيط “النزيه” لحل القضية الفلسطينية في تجاهل تام لحجم الدعم العلني والخفي الذي تقدمه للكيان اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
يكفي القول فقط أن أمريكا عطلت الشرعية الدولية في كل مرة تتوجه فيها المنظمات الدولية لإدانة الكيان على جرائمها أو تمنح شرعية أكثر للجانب الفلسطيني، ومع ذلك بقيت الأنظمة العربية بما فيهم سلطة أوسلو الفلسطينية تحافظ على مرتبة أمريكا كوسيط نزيه وراعي عادل للسلام مع الكيان الذي لم ولن يقدم تنازلات مجانية أو ذات جوهر حقيقي تجاه ما يسمونه الحكم الذاتي في الضفة وغزة.
لكن ما حقيقة الموقف الأمريكي من فكرة إقامة الدولة الفسلطينية؟!
إن أول رئيس أمريكي تحدث عن إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية كان “جيمي كارتر” عام 1977، ولكنه لم يقدم أي خطة محددة لتحقيق ذلك، وقد جاء ذلك الوعد كإبرة مورفين في الجسد العربي لتقبل مرارة اتفاقية كامب ديفيد سيئة الصيت التي تم تمريرها عام 1978.
وفي عام 1988، أعلن “رونالد ريغان” أن الولايات المتحدة لا تستبعد إقامة الدولة الفلسطينية، وكان الهدف منها شد الجانب العربي للوقوف خلف أمريكا في مواجهة التمدد السوفيتي لكنه رغم ذلك شدد على أنها يجب أن تكون نتيجة للتفاوض وليس للإملاء.
وفي عام 1993، شهدت إدارة “بيل كلينتون” توقيع اتفاقية أوسلو بين الكيان الغاصب ومنظمة التحرير الفلسطينية، والتي فتحت الباب ظاهرياً أمام إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية في المستقبل الغير منظور، حيث لم تحدد موعداً أو آلية لتحقيق هذه الفكرة الهلامية .
وفي عام 2002، أصدر “جورج دبليو بوش” الشهير ببوش الصغير خطاباً تاريخياص، أعلن فيه أن أمريكا تدعم إقامة الدولة الفلسطينية كجزء من رؤيتها للسلام في الشرق الأوسط، وكان ذلك ضمن سياق بيع الوهم للوطن العربي بإقامة الدولة الفلسطينية مقابل التحشيد العربي خلف هذه الإدارة لغزو العراق واحتلاله عام 2003.
وفي عام 2009، ألقى “باراك أوباما” خطاباً عاطفياً في القاهرة استهله بكلمة “السلام عليكم” بالعربية وأكد فيه على التزام الولايات المتحدة بحل الدولتين، وحتى يحدث فرقاً عن سابقيه دعا إسرائيل إلى وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، ولكنه لم يقدم أي خارطة طريق أو مبادرة لتنفيذ ذلك.
إلى أن أتى عهد “دونالد ترامب” الذي كشفت فيه أمريكا عن وجهها الحقيقي حيث أعلن عام 2017 أن الولايات المتحدة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، مما أثار غضب الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وألحق ضربة قوية بفرص إحياء عملية السلام المزعومة، لكنه عاد في عام 2020، لترقيع هذه الوجه القبيح لأمريكا بإطلاق ترامب خطة السلام التي أطلق عليها اسم “صفقة القرن”، والتي تقدم رؤية لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني من وجهة نظره، وتشمل إقامة الدولة الفلسطينية في أراضٍ محدودة ومشروطة، ولكنها تعترف بسيادة إسرائيل على القدس ومعظم الأراضي التي ضمتها بعد عدوان 1967.
وفي عام 2021، أصبح “جو بايدن” رئيساً للولايات المتحدة، وأعاد العلاقات مع السلطة الفلسطينية، مؤكداً دعمه لحل الدولتين، ولكنه لم يلغ خطوات ترامب بشأن القدس والاستيطان، ولم يقدم أي مبادرة جديدة لإحياء عملية السلام، وهو بذلك يثبت موقف سلفه من حيث الفعل والأثر على الأرض، في حين يبيع العرب وعوداً جوفاء جديدة لا تسمن ولا تغني من جوع.
الدعم الأمريكي الأعمى لإسرائيل…تبعية أم استراتيجية أمريكية مقصودة؟!!
واهمٌ من يعتقد أن العلاقة بين أمريكا والكيان هي كأي علاقة بين دولتين حلفاء، فما بين أمريكا والكيان هو أكثر من تحالف وأقل من اندماج وهو ما يصب في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، لذلك مهما تمادى الكيان في ارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين ستبقى بنظر أمريكا أعمال مشروعة ضمن حق الكيان في الدفاع عن النفس.
حتى في حالة ظهور خلاف علني لا يعدو أن يكون كما وصفه ثعلب السياسة الأمريكية “هنري كيسنجر” في معرض وصفه لمتانة العلاقة الأمريكية مع الكيان بالخلاف “العائلي” وهو توصيف لم يسبقه إليه أحد في وصف العلاقة بين دولتين، لكن من المؤكد في هذه الحالة أننا لسنا أمام دولتين بل أمام أمريكا وربيبتها إسرائيل في المنطقة التي أنشأتها أمريكا كحاملة طائرات متقدمة في قلب الوطن العربي لحماية المصالح الأمريكية من أي تهديد ناشئ لها.
لكن ما هي أشكال الحماية الأمريكية للكيان؟!!
عسكرياً: لن نستطرد أكثر من القول أن جميع مخازن السلاح الأمريكي تصبح مفتوحة أمام جيش الكيان، وحتى المخزون الاستراتيجي للسلاح الموجود على أرض فلسطين المحتلة يتم فتحه سراً لتزويد ماكينة الحرب الصهيونية، فحين يتعلق الأمر بدعم الكيان بالسلاح لا يحتاج الأمر إلى موافقات الكونجرس ولجانه العسكرية ودوائر صنع القرار في البيت الأبيض وتعقيداتها فلدعم الكيان هناك تفويض تلقائي وعرقلته معاداة للسامية.
حيث لا يقتصر الدعم العسكري على فتح مخازن السلاح بل يتعداه للانخراط الفعلي لأمريكا في الدفاع عن الكيان ولعل معركة طوفان الأقصى قد عرت هذه العلاقة على حقيقتها على مرآى الجميع، الذي بات متأكداً أن هذه المعركة هي معركة أمريكية بلون إسرائيلي.
اقتصادياً: اقتصاد الكيان اقتصاد طفيلي يعيش على إجبار الآخرين على التعامل معه من محيطه العربي المطبع وهو ما تؤكده اتفاقيات التطبيع المخزية بين هذا الكيان وبعض الأنظمة العربية، كما يعيش اقتصاد الكيان على المعونات الأمريكية المعلنة وغير المعلنة ويكفي أن نضع حجم الرقم المخيف الذي قدمته أمريكا فقط لاقتصاد هذا الكيان منذ تم تصنيعه عام 1948 وحتى عام 2023 وفق أحدث التقديرات بـ 158.6 مليار دولار كدعم وليس قروض أو استثمار.
فيتو أمريكي لحماية كيان صهيوني!!
لكن الأهم لهذا الكيان هو الدعم السياسي والغطاء الشرعي الذي تمنحه أمريكا لهذا الكيان الغاصب في جميع المحافل الدولية خاصة مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية الدولية او محكمة العدل الدولية
ولعل حق النقض الفيتو هو المظلة التي ترتكب تحتها إسرائيل كل جرائمها وهي تثق أن هناك يد آثمة داخل مجلس الأمن سترتفع لنقض أي ادانة لهذا الكيان.
فقد استخدمت أمريكا حق النقض 79 مرة منهم 50 مرة كانت لحماية إسرائيل ولم تخجل إدارة البيت الأبيض في نقض أي مشروع قرار يمس الكيان لدرجة انها استخدمته ثماني مرات في عام 1982 سبع مرات دون خجل أو تردد او إنسانية.
لكن ماذا عن الموقف العربي من الدعم العربي لأمريكا؟!!
الدول العربية ضمن محور المقاومة ليست متفاجئة بهذا الموقف الأمريكي وهي تعي مسبقاً أنها تخوض معركتها مع أمريكا أولاً وأدواتها في المنطقة ثانياً، لذلك فإن الموقف الأمريكي هو تأكيد على صوابية خيار هذا المحور في مواجهة أمريكا ومشاريعها في المنطقة.
في حين محور “الاعتلال العربي” يرى في هذا الموقف عامل تحريض مسرع لمشروع التطبيع الاستسلامي في المنطقة ولذلك زادت حدة الهرولة للمطبعين دون الاكتراث حتى بالمطالبة بإعلان الدولة الفلسطينية إلا ضمن المفهوم الأمريكي السابق ذكره.
لذلك نرى تلك التصريحات التي تنادي بالتطبيع مقابل عودة مسار التفاوض حول فكرة إقامة دولة فلسطينية، ومع الوقت يبقى التطبيع قائماً وتتبخر فكرة الدولة التي قام التطبيع على أساسها.
أمريكا ليست مهتمة بإنشاء دولة فلسطينية وتاريخ مفاوضات السلام المزعوم بات مخجلاً منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي كان فقط مؤتمراً للتطبيع وحتى يومنا هذا ولن يكون هناك سلام والأرض العربية محتلة، ولن يكون هناك سلام بوجود الصهاينة على أرض فلسطين.
ومن الغباء تصديق وعد أمريكا بدولة فلسطينية، وتبقى تلك الدولة خرافة أمريكية، فالولايات المتحدة لا تهتم بحقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، بل تسعى لحماية مصالحها وحلفائها، وخاصة إسرائيل، فالحقوق تُؤخذ ولا تُمنح وسواعد المقاومين في فلسطين هي من تبني قواعد هذه الدولة بجماجهم ويروون تربتها بدمائهم وستتحرر يوماً بصمودهم وبطولتهم وتضحياتهم.