أخبار حلب _ سوريا
بقلم الدكتور: فضيل حلمي عبد الله
لا يمكن فهم كنه أيّة ثورة وأسرار عظمتها وديمومة استمرار تقدمها دون وضعها في سياقها التاريخي ومعرفة الظروف التي رافقتها وأحاطت بشأنها، ومعروف أن الثورة الإسلامية الإيرانية جاءت داخلياً بعد معاناة شديدة ومخاض عسير عاشه الشعب الإيراني الشقيق، وجاءت إقليمياً في توقيت حساس للغاية حيث كانت المنطقة تمر بمنعطف حاد بالنسبة لقضية العرب والمسلمين؛ هي القضية المركزية قضية فلسطين.
حيث برزت جملة من التعقيدات في الصراع “العربي الصهيوني”؛ تمخضت عبر خروج مصر أكبر بلد عربي من حلبة الصراع العربي الصهيوني مكبلة باتفاقية كامب ديفيد ومعلناً نظامها آنذاك انقلابه على شعار “حرب التحرير واستبداله بحرب التحريك”.
أما دولياً فقد جاءت ثورة الشعب الإيراني في زمن كان شاهداً على حدة الصراع “السوفيتي _الأمريكي” الذي شطر دول العالم مخلفاً عقبات متصارعة وإيديولوجيات متناقضة “شيوعية_ اشتراكية_ رأسمالية وليبرالية”؛ عندها ظهرت الثورة الإسلامية الإيرانية رافعة شعار “لا شرقية ولا غربية بل جمهورية إسلامية”، وموضحةً أمرين استراتيجيين هما:
الأول: انتهاج برنامج قصير الأمد لمواجهة العولمة بمفهومها الغربي القائم على النهب.
والثاني: تطبيق برنامج طويل الأمد لتضعيف العولمة الغربية وذلك بعرض وجه مشرف ومشرق للإسلام وأفكاره الحضارية، وعلى عكس ما تفعله الوهابية اليوم باسم الإسلام من نشر للإرهاب والتطرف والإجرام الدموي والتكفيري مشوهة مبادئ الإسلام وقيمه الفاضلة.
ولعلنا لا نجانب الواقع إذا قلنا أن متلازمة القول والفعل والعمل كانت السمة الأبرز في مسيرة الثورة الإسلامية الإيرانية وسر نجاحاتها وانتصاراتها المتلاحقة خلال أعوامها الثانية والثلاثين والتي كانت نهج حياة الإمام الخميني مفجر الثورة وقائدها، وكانت سلاحه في مواجهة التحديات الكبرى قبل انطلاق الثورة وبعد انطلاقها، ولا سيما محاربة الاستبداد والاستكبار فاستبداد الشاه كان يوصف بأنه الأفظع في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين وما كان من أحد يتصور لقوة أن تتغلب عليه؛ نتيجة تلاحمه العضوي مع قوى الاستكبار العالمي وعلى وجه الخصوص مع أمريكا التي تعتبر مكانها القوة الأقوى في العالم.
ورغم أن تحديث إيران كان يقتضي اتباع نموذج عالمي للتنمية مستوحى من الغرب المتطور، إلا أن الثورة لم تشأ أن تقلد أحد لنقل مجتمعها التقليدي إلى متطور وأصرت على تشكيكها بأسس التنمية الغربية، وتفنيد حب الدنيا المفرط، والاعتماد على العوامل المادية وإغفال العوامل المعنوية والروحية، مؤكدةً عدم الحاجة للنماذج الغربية في التنمية الاجتماعية وهي برفضها نظرية التطور المفتقر للحياة المعنوية فتحت أمام البشرية آفاقاً جديدة تلبي ما لها من المتطلبات المادية والمعنوية معاً.
لقد كان هذا بمثابة الأرضية الصلبة والمتينة التي أسست لرحلة إيران الطويلة وانتقالها من طور إلى آخر ومن الحصار والعمل الدؤوب؛ انتقلت خلالها إيران من درك الدول التابعة الذيلية إلى مصاف الدول المتقدمة من خلال إنجازاتها النووية والفضائية؛ فارضة نفسها وبقوة أمام العدو والصديق دولة إقليمية عظمى وقد عزز هذا الحضور انخراطها في الحرب على الإرهاب، وخصوصاً في كل من سوريا والعراق ومدها يد العون والدعم للمقاومات العربية وخصوصاً اللبنانية والفلسطينية قافزة فوق جدار الطائفية والمذهبية العفنة.
ولا يجادل أحد بأن الثورة الإيرانية بعد ثمانية وثلاثين عاماً أضحت الرقم الأصعب في المنطقة، والقوة الصاعدة التي لا تعرف التوقف ولا تعرف التوقف ولا يستطيع أحد عرقلة تقدمها الذاتية، وابتعدت عن الاتكال على الآخرين وظهر ذلك جلياً عندما سار التطور الاقتصادي في إيران في طريقه إلى الأمام رغم وجود بعض الموانع والعقبات مثل المقاطعة الاقتصادية وحرب الثمانية أعوام التي كان النظام العراقي السابق قد فرضها ضد الجمهورية الإسلامية في إيران؛ حيث كانت تلك الحرب الظالمة قد تسببت في خسارة قدرت ب 1000 مليار دولار أو ما يعادل نفقات البلاد على مدى 70 عاماً.
على أية حال لم تقتصر منجزات الثورة في إيران على البعد الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، إنما شملت أيضاً البعد العسكري حيث شهدت إيران نقلة نوعية على صعيد تطوير الأسلحة لديها لا بل تجاوزت هذه الحقبة رغم الحصار، وغاصت في صناعة الأسلحة كافة بمجهودها الذاتي كصناعة وتطوير الصواريخ الباليستية والأقمار الاصطناعية وصناعة المدرعات والسفن الحربية والغواصات والمقاتلات الجوية؛ بالإضافة إلى صناعة الرادارات والدفاعات الجوية وصولاً إلى امتلاك تقنية التشويش الإلكتروني المتطورة؛ لتصل الجمهورية الإسلامية بفضل ثورتها الصادقة إلى مرحلة الجهوزية لخوض الحروب الإلكترونية وعلى نطاق واسع ومثال على ذلك عملية السيطرة وإنزال الطائرة الأميركية التجسسية العام الفائت.
وبالتوازي مع اعتماد الثورة على القدرات الذاتية؛ اعتمدت على رأي الشعب اعتماداً كلياً في إدارة البلاد من خلال ديمقراطية من نوع جديد هي الديمقراطية الدينية التي أثبتت نجاعتها في استقرار السلطة، وتوفير الأمن والسلامة للمجتمع وجاءت الانتخابات في مستوياتها المختلفة المحلية والتشريعية والرئاسية في أدوارها المنتظمة وأوقاتها الثابتة؛ لتقديم نموذجاً ناجحاً للعالم يعتمد رأي الشعب في شرعية النظام السياسي، ومن هذا المنطق بالذات كان اعتماد الاستفتاء العام لشرعية مبدأ الثورة الإسلامية ليس عملاً شجاعاً فحسب بل فكرة فاقت الديمقراطية الغربية.
أما ذروة إنجازات الثورة الإسلامية الإيرانية سياسياً؛ فكانت مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة، حيث أنعشت جهودها الكبيرة الآمال بإمكانية الانتصار عليه وإسقاط “أسطورة” قوة العدو الصهيوني “التي لا تقهر” بعد عقود من الإحباط وانسداد الآفاق أمام العرب والمسلمين.
وإذا كان حرياً أن ينسب الفضل لأصحابه فيعود الفضل في ترسيخ محور المقاومة ومنظومة المقاومة للثورة الإيرانية، حيث بات هذا المحور القوة لقهر العدو الغاصب، في وقت كادت فيه القضية الفلسطينية تضيع في متاهات “كامب ديفيد” و”أسلو” ووادي عربة”، وخضم التحالفات السرية بين العدو الصهيوني وأنظمة العمالة العربية ولا سيما الخليجية منها؛ وإن الفعل المقاوم الممتد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى الجمهورية العربية السورية مروراً بالمقاومة الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة وبالبنان والعراق واليمن، غدا اليوم الصخرة الصلبة التي تتحطم عليها مشاريع مشغلي الأدوات الإرهابية وصارت من الماضي أحلام التكفيريين والظلاميين في إسقاط دمشق عاصمة الياسمين، وحاضنة جبهة المقاومة المنيعة التي لا تلين.
تابعنا عبر منصاتنا :