بنفس القدر مما تحتاجه من الجلادة وأنت تجمع نفسك كل يومٍ صباحاً كي تبدأ معتركك الروتيني مع اللاكهرباء والامواصلات ولا ماء دافئ لفنجان قهوتك، تحتاج أيضاً صلابة تحملها في حقيبتك وأنت تسير في شوارع حلب.
لماذا؟ لأن مشاهد التراجيديا التي كانت تبكيك وأنت تشاهدها في الأفلام خلف الشاشة، وتَسقط حبات الفشار من ارتعاد يدك، أصبحت تراها في الواقع شبحاً يتسلل من أزقة المدينة.
تسير في البرد تغطي نفسك بمعطفك فتصطدم بطفلٍ بلا معطف ولا جوارب ولا سلاح في يديه يحارب البرد.
قبل وبعد الحرب، لم تنم حلب يوماً
انتهت الحرب في حلب وعاد الأمان مع الربيع بعد خروج آخر مسلّح فيها منذ ستت أعوامٍ خلت.
كانت تُلقّب حلب فيما مضى “المدينة التي لاتنام”، ولكنها لم تكن تشكو أرقاً، بل كانت ترنو سهراً وسمراً، بأهلها بسلامٍ حتى مطلع الفجر.
ولكن بعد عشر سنوات عجافٍ من الحرب على حلب، صار طعم السهر مختلفاً، إذ يحمل في جنباته الأنين، فلا يوجد بابُ بيتٍ في المدينة تطرقُه إلا أنبأك بلسانه الحزين عن قصةِ شهيدٍ أو مفقودٍ أو جريحٍ أو بيتٍ بلا جدران لم يبق منه إلا مقبضه الذي يقود ركامه إلى شاطئ الأمل، فالبكاءُ على أطلالِ الزمنِ الجميلِ لا يطعمُ خبزاً.
انتهت المعركة وبدأت الحرب!
كانت معركة تحرير حلب كاستئصالٍ لسرطانٍ ينهشُ بالجسد، فصحيحُ توقف المرض عن الانتشار ولكن خسر المريض قدمه.
على أية حال، فإنك حين تمر في شوارع المدينة ترى الكثير من الناس قد فقدوا أقدامهم أو أيديهم جراء الحرب، خصوصاً أولئك الشبّان الذين دفعوا ثمن نوم أبائهم وزوجاتهم وأطفالهم بهدوء وأمان، وكذلك الذين قَدِموا من أماكن أخرى لمساندتهم لأنهم على يقين أن هذا السرطان سيصل إليهم إذا لم يُستأصل من جذوره، وأن هذه النار ستحرق جدرانهم إذا غضوا الطرف عن لهيبها الذي يأكل الحجر والبشر.
صحيحٌ أنهم فقدوا أطرافهم، ولكنها لم تكن نهايتهم، فتراهم اليوم يمارسون الحياة متأملين بالثواب العظيم على كفاحهم عند الله، أما أولئك الذين فقدوا ضمائرهم وعقولهم إذا رمقتَ إلى حالهم بطرفك اليوم سترى أنهم يُباعون في سوق النخاسة التركية مُكبلين بخيباتهم.
ولكن هل انتهت الحرب؟ لقد أتت هذه الحرب على كل جوانب الحياة في المدينة، الاقتصاد والخدمات والتعليم والبنية التحتية.
نعم انتهت معركة البندقية والدبابة والقذيفة، ولكن مازالت حلب تكافح أذرع الحرب الأخرى.
يقول كارل فون كلاوسويتز: أن “الحرب كالحرباء” تتغير باستراتيجياتها وأدواتها لخدمة أهدافها ورؤيتها، وهذا أبشع مافي الحرب التي تعرضت لها سورية عموماً وحلب خصوصاً.
فأن يفقدك العدو لذة انتصارك، وطعم هنائك بأمان أطفالك الذي انتزعته من براثنه بأساليب أخرى من الحرب، هذا ماعلينا أن نتنبه له.
الخلاصة
قدر حلب في الحاضر كما قدرها في تاريخها القديم أن تتعرض للحروب والتدمير، وكما قدر كل مدينة في العالم تعرضت لحرب ظالمة وعدوان غاشم، كالمدينتين اليابانيتين “هيروشيما ونكازاكي” التي دمرتهما أمريكا بقنبلتين ذريتين شوهت جيلاً بكامله.
والقائمة تطول ولكن الأهم من ذلك كله أن نتعلم من تجارب الأمم والحضارات كيف نهضت من دمارها من جديد وتغلبت إرادة الحياة فيها وعادت قوية باقتصادها وتعليمها وخدماتها.
الفرق بين حرب الرصاص والحروب الأخرى، أنه في المعركة المباشرة مطلوبٌ أن يقوم جيش الوطن بدوره، أما في الحرب التي تعاني منها حلب الآن بعد تحريرها فالمطلوب من أي حلبي اليوم أن يكون فرداً من جيش المدينة في موقعه، طبيباً أو معلماً أو عالماً، أو عاملاً أو طالباً أو غيره.