فلسطين أرض جُبلت بتحمل المعاناة بصبر وجلد ومقاومة، هي تاريخ نضال وكفاح يورث من جيل إلى جيل حتى نيل الاستقلال الكامل وتحرير الأرض من رجس الاحتلال ، واليوم الثامن من كانون الأول هو ذكرى انتفاضة الحجارة الأولى التي اندلعت شرارتها في جباليا التي لأهلها نصيب من اسمها.
لقد عانى الشعب الفلسطيني ما عاناه من الظلم والاضطهاد من قبل المحتل منذ نكبة عام 1948، ولايزال نظام الاحتلال قائم على اعتبار الفلسطيني كائن غير مرغوب به على هذه الأرض، ولذلك عمد جندي إسرائيلي يقود شاحنة إلى دهس عدد من العمال الفلسطينيين من سكان مخيم جباليا العالقين أمام حاجز صهيوني أوقع أربعة شهداء وجرح سبعة وفر هارباً امام حاجز الكيان دون أن يعترضه أحد.
ما قام به ذلك الصهيوني كان ترجمة لما ينطق به زعماء الكيان أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت ، لكنه لم يكن يدرك أنه اشعل شرارة ثورة كامنة في قلوب الفلسطينيين ، وأن ما قام به كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير الصهيوني.
لم يكن لما حدث في ذلك اليوم من عام 1987 أن ينطفئ ، فقد ألهب الموقف غضب الشعب الفلسطيني الذي هب في غزة للخروج الى الشوارع لمواجهة آليات الاحتلال ، ولأنهم أصحاب الأرض فقد أمدتهم الأرض بحجارتها التي تناولتها أيديهم لمواجهة المدرعات بصدور عارية ، كان ما حدث أشبه بكرة ثلج متدحرجة فلم يقتصر الأمر على غزة بل امتد لهيب الانتفاضة وبقوة إلى قرى ومدن ومخيمات الضفة الغربية.
ورغم كونها ثورة شعبية أغلبها فتية يمطرون آليات العدو بالحجارة إلى أن قوات الاحتلال مارست سياسة البطش والتنكيل بحقهم ، لقد كان من ثمار هذه الانتفاضة هي إبراز الوجه القبيح للوحشية الصهيونية التي كان على رأس قواتها اسحق رابين الحاصل على جائزة نوبل “للسلام” رغم كونه الموجه لقواته بسياسة تكسير العظام بالحجارة للفتية الفلسطينيين ، لم يكن في حينها وجود لثورة الاتصالات التي نشهدها اليوم ، لكن عدسات المصورين وثقت للعالم تلك المشاهد التي يندى لها جبين الإنسانية ، عدا عن التغول الصهيوني في ابتلاع المزيد من الأراضي وبناء المستوطنات عليها.
تلك الوحشية لم تفت في عضد هذه الانتفاضة التي طورت آلية عملها المقاوم وأصبحت اكثر تنظيما في رفع شعاراتها وتحديد أهدافها وحتى في طرق مواجهتها للعدو، حيث كان البيان الأول لقوى المقاومة الوطنية يتضمن شعار ( ليسقط الاحتلال ، وعاشت فلسطين حرة عربية ).
جاءت الانتفاضة في وقت عصيب شهده مسار القضية الفلسطينية الذي تضرر جراء توقف العمل المسلح عبر الحدود خاصة بعد اجتياح بيروت عام 1982 وانتقال الفدائيين الى عدة بلدان عربية غير مجاورة لفلسطين ، وتراجع أولوية القضية في القمم العربية لحساب قضايا أخرى.
لذلك كانت هذه الانتفاضة رغم كونها موجهة ضد الاحتلال إلا أنها كانت انتفاضة ضد التجاهل الدولي المتعمد للقضية الفلسطينية ، ضد التراخي العربي في دعم قضيتهم المركزية ، ضد حالة الإحباط الذي وصل لدى فئة من الشعب الفلسطيني ، انتفاضة ضد النظرة الدونية للعقل العربي لذلك عملت على إعادة ملف القضية الى طاولة البحث والإهتمام العربي والدولي ، واشعلت من جديد أمل الشعب الفلسطيني والعربي بالتحرير ، وابرزت مهارات العمل المقاوم أمام آلة الموت والدمار الذي يملكها الكيان الصهيوني حيث طورت الانتفاضة وسائل المواجهة معه من استخدام الحجارة الى تحقيق اهم وأقوى سلاح هو الالتحام الشعبي خلف الانتفاضة بما شمله من عصيان مدني وإضراب عن العمل ، إلى استخدام المقلاع والسكين والزجاجات الحارقة وأسلوب المصيدة وكل ما من شأنه إعاقة حركة الآليات من مسامير واطارات محروقة وخلافه.
لقد تحولت غزة إلى أرض الجحيم لدى الصهاينة ، وأصبحت مدينة مغلقة في وجه قوات الكيان وتحولت الى كابوس يؤرق نوم قادته حتى قال أحدهم يومها “تمنيت لو استيقظ من النوم وأجد غزة وقد ابتلعها البحر” لكن غزة لم يبتلعها البحر ، لكنها ابتلعت بالفعل آليات العدو وجنوده.
جن جنون الصهاينة أمام شعب خرج يطالب بحريته واستقلال وطنه ضد آخر استعمار على وجه الأرض يمارس الفصل العنصري بأبشع صوره ضد أصحاب الأرض، عبر الاستخدام المفرط للقوة بالرصاص المطاطي والحي وقنابل الغاز المسيل للدموع، عدا عن عمليات الاعتقال التي وصلت أعدادهم بين عامي 1987 وعام 1994 إلى مائتين ألف معتقل تم الزج بهم في سجون مستحدثة خالية من الخدمات الأساسية ينامون فوق الخشب وتغوص اقدامهم في الطين.
كان حصيلة هذه الإنتفاضة ارتقاء 1555 شهيد وأكثر من سبعين ألف جريح منهم 40% إعاقة دائمة بين شلل دماغي أو نصفي او بتر أحد أطرافه، وهدم 431 منزلا هدم كلي و59 هدم جزئي ، في حين قُتل من جنود الصهاينة 70 جندياً ، و 99 مستوطنا.