بقلم: زهراء مهنا
ثلاثة مشاهد حدثت صبيحة معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول، شكلت نقطة فارقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
ومنذ أن اكتسحت تلك المشاهد شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي تتعثر إسرائيل بتجاوزها أو تعويضها عن طريق تحقيق أهداف ثمينة في غزة، فما هي هذه المشاهد؟
الرسائل الثلاث يفهمها الإسرائيليون جيداً
المشهد الأول: تمثل بالهجوم الكبير الجوي البري البحري من خلال تسلل قوات المقاومة الفلسطينية إلى مستوطنات غلاف غزة عبر السياج الحدودي وعبر وحدات الضفادع البشرية من البحر، إضافة إلى مظليين من فوج “الصقر” التابع لكتائب القسام.
والمشهد الثاني: هو ما أسفر عنه هذا التسلل من مقتل مئات الإسرائيليين، واقتحام المقاومين 8 مواقع لجيش الاحتلال من فرقة غزة والسيطرة عليها، وتدمير الأسلحة وإشعال النار في مراكز الاتصالات والمراقبة والذي أدى إلى تعطيل قدرات القيادة والسيطرة.
والمشهد الثالث: هو صورة سَوق الأسرى من المستوطنين والجنود الإسرائيليين واضطرار باقي المستوطنين إلى النزوح للمناطق الأكثر هدوءً مع ما غصّ به مطار “بن غوريون” الإسرائيلي من الأعداد الهائلة للهاربين خارج حدود الأراضي المحتلة.
تلك الصور الثلاث حملت رسالة صادمة وصادقة أكثر من شعارات “نتنياهو الانتخابية” لكل مستوطن إسرائيلي على الأراضي المحتلة سواء كان مدنياً أو عسكرياً أو مستثمراً اقتصادياً أو سياسياً أو دينياً مفادها أن هذا اليوم آت لا محالة طالما أن المقاومة مستمرة، وأنكم أمام خيارين إما أن تتركوا تلك الأرض لأهلها طواعيةً وتعودوا من حيث أتيتم، أو سيكون مصيركم إحدى الصور التي ترونها أمامكم القتل أو الأسر أو النزوح القسري.
سنن التاريخ الكونية تقول كلمتها
هذا المصير الطبيعي جداً بحسب سنن التاريخ وثقافات الشعوب عمل الكيان الإسرائيلي بمساعدة أمريكا على تحويله إلى معضلة مستحيلة الحل من خلال عدة عوامل:
أولاً: تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وهو مصطلح قديم وسياسة أمريكية تعمل على تضييق مفهوم الوحدة في أذهان الشعوب المحتلة لكيلا تتجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية وتبقى تدور ضمن فلك المناطقية الضيقة.
كما حاولت إسرائيل أن تفعله في سوريا بعد فصل الجولان عن الجسم السّوري والاستيلاء عليه ومن ثم التفاوض مع سوريا على إعادة الجولان مقابل تخلي سوريا عن القضية الفلسطينية، وقد كان الرئيس الرّاحل حافظ الأسد متنبهاً فطناً لهذه اللعبة حينما رفض المقايضة وأجابهم: “فلسطين قبل الجولان”.
وما تزال أمريكا اليوم تحاول اللعب على نفس المضمار لمشاغلة سوريا بأولوية استعادة شرق الفرات وإدلب والجولان بدلاً من تطلعها إلى وحدة على نطاق المنطقة العربية ومحور المقاومة.
ثانياً: استبدال حق العودة إلى الوطن بحق العودة إلى المخيّم، وذلك من خلال افتعال الأزمات المتتالية في المخيمات الفلسطينية كما في مخيمات سوريا ولبنان لتشكيل حركة تهجير من المهجر ليتحول حلم الفلسطينيين من العودة إلى عكا وحيفا ويافا والقدس إلى حلم ضيقٍ مهزوم يقتصر على أمنيات العودة إلى الشّتات.
ثالثاً: اتفاقيات السّلام والحلول البديلة التي عملت على طمس حق تحرير الأرض الفلسطينية من آخر جندي إسرائيلي محتل من خلال طرح حلول ملتوية، كحلّ الدّولتين أو الحكم الذاتيّ كاتفاقية أوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد وغيرها من الاتفاقيات التي كان الاحتكام فيها للسّلطة العالميّة المتمثّلة بأمريكا الرّاعي الرسمي للوجود الإسرائيلي في المنطقة العربية.
وقد تنبّه عدد من القادة العرب الفطنين لخطورة تلك الاتفاقيات وعدم جدواها في تحقيق السّلام وكان في طليعتهم الرّئيس الراحل حافظ الأسد الذي لقب على أثر مواقفه من تلك الاتفاقيات وشاكلتها بِ “الرجل الذي لم يوقع”
رابعاً: حَرف فوّهة البندقية عن صدر العدو الحقيقي عبر أعداء وهميين اختلقتهم أدوات التخطيط الأمريكية في أذهان المضللين من الشعوب العربية وكبّرت وهم الخوف من خطرهم ليطغى على الخوف من خطر وجود المحتل، وبعدها زجّت بين أيديهم السّلاح والمال لتشتعل المنطقة بحروب داخلية طويلة الأمد فيختنق الحلم العربي بضائقة تحقيق السلام والأمان في بيته وحارته أو قريته أو محافظته بدلاً من تطلعاته لتحقيق السّلام العادل والشامل في فلسطين المحتلة.
مشوار من غزة إلى الحلم العربي في سماء الأراضي المحتلة!
وبينما كان المستوطن الإسرائيلي ينعم بالراحة في الأرض المحتلة ويتطاول في أحلامه، وفي المقابل الإنسان العربي مقّسم الأرض، فاقد الهوية، مضلل الفكر منهوب الثروة، مسلوب الإرادة، منقسمٌ بين: عربي عاجز مكبّل جلّ أحلامه شتاء دافئ وسلّة غذائية أو حوالة مالية تنقذ ما آلت إليه حالته، وبين عربي هائم في دور اللهو يملأ جيوبه من عرق جبين الآخرين، لا يأبه لما سينتظره من مصير أسود إذا ما تمكنت إسرائيل من غزة ولبنان وسوريا وجاء الدّور عليه لتنهش ما سمّنته طويلاً من لحومه الدّسمة.
حتى جاءت معركة طوفان الأقصى بمشاهدها الإعجازية الثلاث وما أتبعته بعد ذلك من مشاهد التحام جبهات المقاومة في غزة وسوريا والعراق ولبنان واليمن وإيران، وكذلك ما تميزت به غزة من صبر عظيم ملأ شاشات العالم بمدرسة التوحيد والرضا والثبات، وما كلله أخيراً قدرة المقاومين الفلسطينيين على إفشال ورقة الاجتياح البري والذي انتهى بتدمير لواء النخبة الإسرائيلي “غولاني” وصولاً إلى إعلان انسحابه مؤخراً بعد حصيلة تجاوزت 486 قتيلاً من الجنود والضباط منذ بدء معركة “طوفان الأقصى”، بينهم 157 قتلوا منذ بدء التوغل البري في قطاع غزة بحسب تقرير لقناة المنار بتاريخ 24 ديسمبر الماضي، الأمر الذي جعل إسرائيل تلجأ إلى أسلوب الاغتيالات من أجل الضغط على غزة لقبولها الدخول في مفاوضات مع الكيان لإنهاء الحرب بدون شروط إيقاف الحرب أولاً وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة ثانياً قبل الحديث عن أي تفاوض، وكان آخر تلك الاغتيالات استهداف القيادي في حركة حماس الشهيد “الشيخ صالح العاروري” ورفاقه في ضاحية بيروت الجنوبية.
ضربة القرن في مقابل صفقة القرن
بناء على كل تلك المقدمات الكبرى استنتج أبو عبيدة في خطابه الأخير أن معركة طوفان الأقصى حولت صفقة القرن إلى ضربة القرن، وذلك يعيد إلى الذاكرة مشروع صفقة القرن الذي كان مطروحاً بقوة على طاولة ترامب ودول الخليج في العام 2019 والعام 2020 منضماً بذلك إلى سلسلة الاتفاقيات والمشاريع الأمريكية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية.
لماذا صفقة القرن تحديداً؟
ما الذي جعل أبو عبيدة يُذكرنا بمشروع صفقة القرن تحديداً بالرغم من أنه ليس المشروع الأخير فقد تلاه مشروع أبراهام للسّلام الذي أبرمه ترامب مع الإمارات والبحرين في حديقة البيت الأبيض؟
لعل السبب يكمن في أن صفقة القرن جاءت لتنسف تحديداً سلاح المقاومة، حيث تلخصت تلك الصفقة بحل القضية الفلسطينية من خلال إقامة دولة فلسطينية بدون جيش في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقيام مصر بمنح أراض إضافية للفلسطينيين من أجل إنشاء مطار ومصانع وللتبادل التجاري والزراعة دون السماح للفلسطينيين في العيش فيها وسيتم الاتفاق على حجم الأراضي وثمنها كما سيتم إنشاء جسر معلق يربط بين غزة والضفة لتسهيل الحركة.
وبذلك كان الخطر الأكبر في هذه الصفقة على سلاح المقاومة التي تحاول هذه الاتفاقية انتزاعه بالمواربة وبمطيّة بدائل مجحفة بحق الشعب الفلسطيني وقد أثبت تاريخ إسرائيل الطويل والمرير في منطقتنا عدم جدواه في التعامل مع سياستها العدوانية والمتعالية على أي قانون دولي أو حقوق إنسان.
وقد أثبت سلاح المقاومة في معركة طوفان الأقصى والذي حاولت إسرائيل وأمريكا انتزاعه في صفقة القرن أنه أصبح متجذراً عابراً للحدود ليس من خلال منظومة الصواريخ التي تصل إلى أبعد مستوطنة في فلسطين المحتلة فحسب بل من خلال منظومة الرّدع العربية الإسلامية المشتركة التي فعلّها محور المقاومة في معركة طوفان الأقصى بشكل كامل فلم يعد يقتصر الأمر على سلاح غزة التي حاولت أمريكا وإسرائيل انتزاعه من خلال صفقة القرن بل بات على صفقة القرن اليوم تطوير نفسها لتصبح قادرو على نزع سلاح إيران ولبنان واليمن والعراق وسوريا وربما روسيا كذلك الأمر وهذا أمر أثبتت استحالته في الوقت الحالي تغير المعادلات وتبدّل موازين القوى لصالح محور المقاومة بعد فشل كلّ المشاريع الأمريكية لتفتيت دول المحور.
الخلاصة
واليوم انتهت صفقة القرن، وفشل مشروع ابراهام، وكسر مظليو قوات المقاومة جدار الوهم، ليحلقوا بالإنسان العربي فوق همومه الضيقة وأزماته المتلاحقة ويأسه المفرط، ويفكوا القيود عن إرادته الحرة ليسموا بفكره عن كل تلك المتاهات التي قوقعته بداخلها آلة الحرب الأمريكية بأذرعها العسكرية والاقتصادية والإعلامية والنفسية فيدرك أن تحرير فلسطين قاب قوسين أو أدنى وأنه الحلّ الأمثل لقطع يد العبث الأمريكية في أرضه ومنطقته وراحة باله، ليلقوا بذلك الحجّة الكبرى على كل وعيه وضميره وتقول ها قد فعلنا فانظروا ماذا أنتم فاعلون؟