سمر محمد عكو
في حضرة قائد الانتصارين تقف مفردات اللغة عاجزةً أمام سحر طيفه، وقد لا يكفي مقالٌ واحد لاختصار عمرٍ من المقاومة ولكن رجلاً واحداً اختصر الزمن مخلفاً وراءه عشرات الآلاف من المجاهدين المدربين الحاضرين للشهادة، هو وارث دماء الشهداء والشهيد الحاضر خلف كل بندقيةٍ ومقاوم وكلما كانت فلسطين هي المحور.
الحاج “عماد مغنية” أيقونة الشباب المقاوم و”الشبح” الذي أرهق استخبارات 42 دولة، و”اسكندر المقدوني” رجل التاريخ بوصف أعدائه، و”مالك الأشتر” المعروف بشجاعته وإقدامه، ليكون اللغز الذي حيّر العقول والرجل الاستثنائي الذي لا يكرر، والإعجاز الذي أسس لمقاومة بوصلتها القدس وعمادها فلسطين.
طفولته المقاومة وشبابه الثائر
ولد “عماد مغنية” في طير دبا الجنوبية اللبنانية عام 1962 في كنف عائلة فقيرة متواضعة ومحبة للعلم والجهاد، عايش معاناة اللاجئين ممن هجرهم جيش الكيان الصهيوني من أرضهم، وفرضت عليه البيئة المحيطة أن يصبح رجلاً في عمر مبكر، فتعرف على القضية الفلسطينية عن كثب وجذبته البنادق والبدلات العسكرية، وكان أمله كبيراً في أن يقدم شيئاً من أجل القضية.
وفي عمر ال 12 تحلّى بوعي سياسي كان كافياً لينخرط في العمل الجهادي، وينضم للمقاومة الفلسطينية ويشارك بأول دورة عسكرية ويتقن نصب الكمائن وفك وتركيب العبوات، ودفع ذكائه وحنكته العسكرية وشجاعته التي ذاع صيتها بين المقاومين الفلسطينيين قائد الثورة الفلسطينية آنذاك “ياسر عرفات” لطلب التعرف عليه عن قرب والذي كان يعتقد أنه سيقابل رجلاً ثلاثينياً لكنه صدم عندما رأى شاباً يبلغ من العمر 18 عاماً يقف أمامه فأعجب بشخصيته، ومن خلال الاجتماعات التي بدأ يحضرها معه تكشفت لدى “عرفات” سرعة البديهة والروح القتالية التي يتحلى بها “مغنية” فقرّبه منه، وأهداه جهاز راديو كان “مغنية” يحرص على الاستماع إليه ونقله معه إلى المراكز الحزبية التي كان يسكن فيها.
وفي أوائل الثمانينات كان له دور في نقل السلاح من المقاومة الفلسطينية إلى حركتي أمل وحزب الله، وفي عمر العشرين فقط خطط لعملية تفجير مقر الحاكم العسكري في صور 1982 والتي نفذها فاتح عهد الاستشهاديين الشهيد ” أحمد قصير” والتي كانت أقسى ضربة تلقاها الاحتلال منذ احتلاله الأراضي اللبنانية.
كما نسبت له 3 عمليات عسكرية كبيرة عام 1982 وهو ما وضعه قيد الملاحقة من قبل الأمريكيين والفرنسيين كما وضعته أمريكا لاحقاً على عرش “الإرهاب العالمي” وأعلنت عن جائزة بقيمة 25 مليون دولار للمساعدة في القبض عليه.
الحاج عماد قائد الانتصارين
مع حصار بيروت وخروج المقاتلين الفلسطينيين انتسب “مغنية” إلى أفواج المقاومة اللبنانية “حركة أمل” التي أسسها السيد “موسى الصدر” لينتقل بعدها إلى صفوف حزب الله تزامناً مع التحاق السيد “حسن نصر الله” بالحزب أيضاً ليعين لاحقاً مسؤولاً للعمليات الخاصة في الحزب ويكون العقل المدبر للحزب وذراعه العسكري في حين كانت عيون المقاتلين تلمع لاسم السيد “نصر الله” كانت قلوبهم ترتعد لوقع اسم الحاج عماد.
وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 برز كقائد ميداني للتحرير التاريخي في أيار 2000 ، وقاد عملية أسر أدت لتحرير عدد كبير من الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين عام 2004، وبعد الانتصار أخذ يصل ليله بنهاره لأنه يعلم أن لا حدود لأطماع الكيان، وأنه سوف يثأر لهزيمته وهو ما حدث فعلاً في صيف 2006، و تشير معلومات إلى أن “مغنية” كان المخطط لعملية أسر الجنديين الإسرائيليين في جنوب لبنان والتي اندلعت على إثرها الحرب الإسرائيلية ضد لبنان، فكان القائد الألمعي كما وصفه سيد المقاومة وكان إيمانه بالنصر يزداد مع كل شهيد يسقط وهي الفلسفة التي كانت سر ثباته.
دم الحاج عماد يسقط بيد الرحمة الإلهية
في خضم ملاحقتها للحاج “عماد” اغتالت أجهزة الاستخبارات شقيقه “جهاد” عام 1985 الذي حلّ محل الحاج “عماد” في مهمة حراسة، ثم اغتيل شقيقه الثاني “فؤاد” عام 1994 بمتفجرة إسرائيلية كان المقصود بها “عماد”.
و بعد تعقب أجهزة استخبارات أكثر من 42 دولة تمكن عملاء الموساد من تنفيذ عملية الاغتيال الجبانة في 12_شباط _2008 عن طريق سيارة مفخخة بدمشق بعد أن أنهى الحاج اجتماعاً مع قيادات فلسطينية حيث غادر بعد العاشرة ليلاً شقة أحد المباني في كفر سوسة ونزل مفرداً وتوجه سيراً على الأقدام نحو سيارته ليدوي انفجار سمعه رفاقه الذين هرعوا إلى المكان ليتبين أنه استشهد من فوره، وكان وقتها يبلغ من العمر 45 عاماً.
القائد يولد مرة واحدة ولكنه لا يموت
يقول الحاج “فايز مغنية” تعليقاً على استشهاد نجله “حين استشهد جاء من يخبرني أنه تعرض لحادث سير و وضعه خطير، صعقت: هل هذه نهاية عماد، حادث سير؟ لكن بعدما تكشفت الحقيقة كنت فخوراً به.
وتقول ابنته الحاجة “فاطمة” خبر استشهاده لم يكن مستغرباً وحدّثنا والدي مرة أنه من الممكن أن لا يُعلن عن استشهاده وذلك لاعتبارات المصلحة العامة للحزب وأوصانا حينها بالصبر والكتمان.
وبعد اغتيال “مغنية” رثاه سيد المقاومة مهدداً ” لقد ترك لكم عماد مغنية عشرات الآلاف من المقاتلين المجهزين الحاضرين للشهادة” وتوعد بثأر يليق بمكانته فيما لايزال الحساب مع العدو مفتوحاً حيث أكد نصر الله بأن دم “عماد مغنية” سيُخرج الصهاينة من الوجود واستشهاده بشارة النصر الآتي بإذن الله.
أما صديقه “قاسم سليماني” احتفظ ب “الكنزة” السوداء التي كان يرتديها الحاج لحظة استشهاده ووضعها في صندوق زجاجي في صالون بيته، وكان يطلب من زائريه التدقيق في الثقوب التي خلفها التفجير والذي اخترقت شظاياه جسده، ولم يكن يقدر على منع دموعه من الانسياب وهو يتحدث عنه كما اعتبر نفسه مسؤولاً عن عائلته منذ لحظة استشهاده.
“فرقة الرضوان” إرث الحاج عماد للمقاومة
رغم اغتياله ومرور 16عاماً على أستشهاده لا يزال الكيان الصهيوني يرى في الشهيد مغنية خطراً عليه وذلك لتأسيسه لفكرة العمل المقاوم المؤسساتي لا الفردي، لأن الفرد معرضٌ للموت بينما تأسيس مؤسسة يضمن استمرارية العمل.
حزب الله الذى نعى شهيده أعلن عن تأسيس “فرقة الرضوان” من قوات النخبة والذي جاء اسمها تيمناً بالحاج رضوان كما كان يحب سيد المقاومة أن يناديه والتي إلى يومنا هذا تذيق العدو الصهيوني الهزائم، وتبث الرعب في صفوفه كما كان الحاج رضوان يبث الرعب في قلوبهم على مدى ربع قرن.
وعلى وقع معركة طوفان الأقصى نال الصهاينة قسطاً من الحساب الذي وعد به “نصر الله” حيث كانت يد الحاج رضوان ضاربة في العمق الإسرائيلي، فعلى الجبهة الشمالية تعمل فرقة الرضوان على استنزاف تجهيزات العدو، كما فرضت معادلات الرد بالمثل وفرضت سيطرتها على الشمال الفلسطيني رغم عدم دخولها إليه، وتعليقاً على بطولاتها وجه رئيس أركان العدو “هيرتسي هاليفي” تحذيراً إلى مسؤولي الاستخبارات “من التمجيد المفرط لقوة الرضوان” لما يشكله ذلك من زيادة الخوف والرعب لدى الصهاينة.
ختاماً..
أمنية الحاج رضوان بأن يقدّم شيئاً للقضية الفلسطينية تحققت ليرحل شهيداً على طريق القدس، ويترك وصيته التي اختصها بفلسطين “الصبر مفتاح الفرج”، هي الأجساد تموت ولكن الفكرة تبقى وتنمو، والإرث المقاوم الذي تركه الحاج رضوان سينبت كما زهر الحنّون الذي يخرج من بين الصخور ليغرس عميقاً في وجدان المقاومين و يروي حكايات الشهداء ووصاياهم.