أخبار حلب _ سوريا
سلوى شياح _ خاص أخبار حلب
أفرزت الحرب التي قاربت الـ 13 عاماً في سوريا دماراً تجاوز حدَ البنى التحتية ومرافق الحياة العامة؛ ليصل إلى ضرب المنظومة القيمية وتفشي ظاهرة العنف التي تكاد تحصد ما تبقى من الحالة المعنوية للمجتمع السوري بعد الحرب وخاصة الجيل الجديد الذي تفتحت عينيه على لون الدم ورائحة البارود.
وفي حادثة ليست الأولى من نوعها ولكنها الأقسى والأغرب على الإطلاق استفاقت مدينة حلب، منذ أكثر من شهر، على فاجعة إنسانيّة ألمّت بالطفلة تسنيم ذات الاثني عشر ربيعاً، حيث عادت من مدرستها مكلومةً ظهرت الكثير من علامات الكدمات الواضحة على أطرافها وفي مختلف أنحاء جسدها.
القصّة كما روتها الطفلة تسنيم:
من مدرسة هشام بن عبدالملك في حي الزبدية بحلب انطلقت صرخة الطفلة “تسنيم” ليصل صداها إلى كل المحافظات السورية، وحول تفاصيل الحادثة قالت تسنيم: “القصة بدأت عبارة عن حالة تنمر من طالبات الصف الثامن.. أنه نحن سابع أصغر منهن.. كنت بحصة الرياضة فبتجي وحدة بتمسكني وبيضربوني على بطني.. بيطبوني على الأرض، ما بيخلو رفقاتي يخلصوني، بعدين بتقلهن وحدة خلونا نحطها عالحيط بتجي الضربة أقوى، وحوطوني بحلقة وما خلوا حدا يدخل عليها وصاروا يضربوني وينطّوا من على السور على رجلي ومين ما بيجي ليجلسني بدوس على رجلي بخفافتو!”.
وعندما لاحظ والدا تسنيم ظهور ازرقاق شديد على أطرافها وصعوبة في الرؤية مع الغباش الشديد في عينَيها نقلوها إلى مشفى المارتيني في حلب ليُشخّص الطبيب الشرعي حالتها بالخطيرة والشديدة كما وصفها!
واليوم بعد مرور أكثر من شهر على الحادثة، مازالت “تسنيم” طريحة الفراش في مستشفى المارتيني بحلب، حيث أُجريت لها اليوم عملية بتر لخمس أصابع من قدمها اليمنى وجزء من المشط، في حين أُجريت عملية تنظيف وإزالة الجلد الميت لقدمها اليسرى، بينما أفاد والد الطفلة لوسائل الإعلام منذ أسبوع أن علاج العينين يحتاج لـ 6 أشهر.
جهود الدولة في امتصاص الصدمة وتقديم الدعم للطفلة
سارعت الجهات المعنية باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة بدأً من مديرية التربية بحلب التي أصدرت على الفور قراراً بإعفاء الكادر الإداري للمدرسة ومحاسبة المقصرين، كما تكفلت بكل تكاليف العلاج، حيث أعلنت مديرية التربية بحلب على صفحتها الرّئيسيّة على فيسبوك ما يلي: “يوم الأحد تم نقل الطالبة إلى مشفى المارتيني الخاص، وتم إعلام مديرية التربية من قبل الأهل بالحادثة يوم الأحد، حيث تحملت مديرية التربية بحلب المسؤولية الكاملة تجاه الطالبة والعلاج الجسدي والنفسي، و تأمين الأدوية اللازمة، وتكاليف العلاج كاملاً بالمشفى الخاص”.
وعليه تم إنهاء تكليف مديرة المدرسة ومعاونتها وثلاث موجهات إداريات بالمدرسة بسبب الإهمال، وعدم متابعة الطالبات أثناء الانصراف، وعدم إعلام مديرية التربية، فيما تم إعلام القضاء المختص وقسم الشرطة المختص، حيث تم توقيف الطالبات التسع بإشراف القضاء أصولاً
حادثة الطفلة تسنيم تتحول لقضية رأي عام على مواقع التواصل
كلمح البصر انتشرت صور الطفلة “تسنيم” كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاقت تفاعلاً شعبياً واسعاً ممتزجاً بمشاعر الحزن والغضب وإلقاء اللوم على مختلف أطراف الحادثة والجهات المعنية بها.
وبينما لم يتبه الكثيرون إلى ضرورة دقّ ناقوس الخطر الأعمق والذي ينذر بتحديات كبيرة تواجهها الدولة والمجتمع المحلي وعامة الشعب إذا ما وضعوا أيديهم على الجرح وتحسسوا أصل المشكلة، اعتبر البعض أنه وإن كان إنصاف الطفلة تسنيم يقتضي معاقبة الكادر الإداري للمدرسة إلا أن هذا الإجراء لا يحلّ المشكلة، فربما تتكرر الحادثة خارج المدرسة وفي أماكن بعيدة عن أعين المارة، وأيضاً لم يجد البعض في توقيف الطفلات التسع اللواتي ارتكبن هذا الاعتداء الجسدي وزجهنّ في السجن حلاً للمشكلة لأنّ هذا الإجراء سيؤثر سلباً على وضعهن النفسي، ولن يكون عاملاً كافياً لتفريغ طاقة العنف المؤذية سواء لهنّ أو لجيل كامل عاش ضحية مخلفات الحرب.
وبما أنّ هذه الحادثة أحدثت ضجة عارمة في المجتمع السوري وقد تكررت بعدّة حوادث مشابهة في مختلف المناطق في سوريا، فلا بدّ لنا من استثمار هذه الصدمة للاستفاقة العاجلة والغوص في المسبّبات الرئيسيّة لمثل هذه الظواهر المخالفة لثقافة الشعب السوري.
ما هو السبب الرّئيسي لانتشار مثل هذه الظاهرة؟
نعود هنا لنقطة البداية، فما حدث في سوريا من حرب ميدانيّة دامت لسنوات سبّبت نقصاً في الوعي الإنساني خاصة لدى جيل الناشئة أو جيل ما بعد الحرب، فما حدث مع الطفلة تسنيم من اعتداء جسدي عنيف من قبل أطفال يكبرونها بعام واحد يضعنا أمام كارثة اجتماعية نضجت في بيئة الحرب.
لماذا تعد الحرب ومخلفاتها بيئة خصبة لتفشي مثل هذه الظواهر؟
يعتبر العنف من مخلّفات الحرب الناتج عن أسباب عديدة ومن أهمّها “سوء الوضع المعيشي” والعنف بمفهومه العام يشمل كافّة قضايا الإجرام سواء القتل أو الابتزاز وصولاً إلى السرقة، فهذه الجرائم تعتبر التحدّي الأبرز لسيادة الدولة السورية مشفوعاً بتحديات أخرى في ظل استمرار دعم تواجد الإرهاب على الأراضي السوريّة.
عانت مدرسة الطفلة “تسنيم” التي تقع في حي الزبدية بحلب من سيطرة الفصائل المسلحة لأكثر من ثلاث سنوات شهدت فيها المدينة بكافة أحيائها أفظع جرائم القتل والنهب والحرق والابتزاز العلني؛ الأمر الذي ساهم في تدمير الوضع النفسي للسكان ومكابدتهم حالة من الرعب أنتجت فيما بعد ردة فعل سلبية.
فما حدث للطفلة تسنيم وغيرها من حوادث العنف هو قضيّة فراغ مجتمعي _ إنساني نتج عن قلّة وعي لدى الجيل البالغ والراشد؛ فإذا نظرنا للطرف المعتدي لوجدناه مجموعة من الأطفال لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشر، فلو كانت طفلة واحدة لكان الاحتمال يصب على كونها تعاني من مشكلة نفسيّة ما، لكن المعتدي كانوا مجموعة من تسعة أطفال في الصف الثامن وهذا يدل على معركة جديدة يجب أن يتصدى لها المجتمع السوري اليوم وهو تدمير الأمن الاجتماعي.
فتفشّي ظاهرة العنف في المدن السوريّة بدأ مِن الأشخاص البالغين أوّلاً، حيث كثرت الحوادث في السنوات الأخيرة التي تتحدث عن رجل قتل ابنته، وآخر سطا على شقيقه، وهناك من قتل أمّه، إلى أن وصل العنف إلى المراهقين ثمّ الأطفال وكأنّنا نعيش حالة وباء جديد سريع الانتشار!
ما هو السلاح الأجدى لمواجهة هذا العنف؟ وعلى عاتق من تقع المسؤولية؟
لن يحد من ظواهر العنف التي تفشت بعد الحرب على سوريا معالجة هذه الحادثة بإلقاء اللوم على الكوادر التعليميّة، أو على ذوي الأطفال المعتدين، بل يجب معالجة جذر المشكلة عبر عدة خطوات:
أولاً: تأسيس بعض الجمعيّات الأهلية المختصة بنشر الوعي الإنساني بدءً من الجيل الجديد وصولاً إلى كبار السن، إمّا عن طريق إنشاء فرق ميدانيّة أو عبر السوشال ميديا.
ثانياً: تفعيل دور كافّة المرشدين النّفسيّين في المدارس من المدارس الابتدائية إلى الثانويّة.
ثالثاً: تجنّب ذكر الجرائم بكافّة أنواعها أمام الأطفال والسعي لجعلهم يعيشون طفولتهم كما يجب.
رابعاً: تحريك الجانب الأسري ليتصرّف الأهل كما يجب من توجيه صحيح للأبناء بخصوص هذه القضيّة.
هذا على الصعيد الداخلي والمحلي أما على الصعيد الخارجي فيجب تقديم المساعدة الدولية لسوريا من أجل تخليص المجتمع السوري من آثار الحرب ونقله إلى مرحلة التعافي بأقلّ التكاليف وذلك من خلال:
أولاً: إيقاف دعم تواجد الإرهاب في سوريا والذي ينهك جهود الدولة في المواجهة العسكرية على حساب الميادين الأخرى.
ثانياً: إنهاء الاحتلالين التركي والأمريكي في الشمال والشمال الشرقي من الأراضي السورية واللذان يعمقان حجم المشكلة من خلال تفشي حالة الفوضى وعدم الاستقرار ونمو الأفكار المتطرفة في المناطق التي الخاضعة لسيطرتهما كمخيمي الهول والركبان الذائعي السيط في حجم العنف المرعب الذي يتحكم بأدمغة الناشئة.
ثالثاً: إيقاف العقوبات الأمريكية على سوريا المعروفة بقانون قيصر والذي كان له الأثر البالغ في إنهاك الاقتصاد الوطني وهو العامل الأبرز لانتشار العنف.
ختاماً
اليوم “تسنيم حداد” وبالأمس كان قبلها الكثير من ضحايا مفرزات الحرب التي دمرت سوريا، إذاً فلا بد من حراك مجتمعي برعاية الدولة السورية وبدعم دولي لإيقاف مسلسل العنف الذي يعمّق من حجم المعاناة التي يعيشها السوريين.