أخبار حلب _ سوريا
ارتبطت ظاهرة تنامي التعاطف مع القضية الفلسطينية في أمريكا بداية مع المكون الأمريكي من أصول عربية وإسلامية ومعهم الأفارقة الذين ذاقوا مرارة الاستعمار وجحيمه، وانتقل ضمن نطاق محدود إلى بعض مكونات المجتمع الأمريكي ولكن بقيت ضمن الإطار المحدود والذي بدأ يخفت أو يرتفع حسب سخونة الأحداث على أرض فلسطين؛ مع عجزهم عن إحداث أي تأثير في مواجهة آلة الدعاية الضخمة التي تحرس صورة الكيان في الضمير الجمعي لدى الغرب كواحة ديمقراطية في الشرق الأوسط.
لكن عند بدء طوفان الأقصى وما رافقها من تحول دراماتيكي في سلم الأولويات العالمية عموماً والأمريكية خصوصاً بدأت تعلو أصوات تخالف اللغة السائدة لدى الغرب وأمريكا بالدعم المطلق للكيان إلى ضرورة وقف هذا الدعم وتنامي سياسة المقاطعة له، وهو ما تم اعتباره تحولاً كبيراً في الرأي العام الغربي وخصوصاً الأمريكي، تجاه ما يحدث في فلسطين وغزة، والذي قد يحمل في طياته عاصفة تغيير آتية لا محالة، كما أنه يعري الوجه الحقيقي للديمقراطية الغربية القائمة على التمييز العنصري تجاه قضايا العالم، فهم لا يرون في القضية الفلسطينية في أحسن حالاتهم سوى مجرد قضية لاجئين، في حين ينظر إلى معاداة السامية على أنها من الجرائم التي لا تغتفر.
فهل قذفت الجامعات الأمريكية حجراً في المياه الراكدة؟!!
يجمع المتابعون على أن ما يحدث في الجامعات الأمريكية هذه الأيام من دعم وتعاطف مع القضية الفلسطينية، يمثل في الجوهر ثورة غير مسبوقة؛ خرجت عن كل سياق الاحتجاجات السابقة التي شهدتها بعض الجامعات، واستطاعت تحدي التبعات القانونية التي ستترتب على طلابها من تلفيق التهم الجاهزة بمعاداة السامية والتمرد على الأنظمة والقوانين الجامعية.
لكن الشيء الذي يميز الحراك في الجامعات الأمريكية هذه المرة عن غيره أنه حراك إنساني متعلق بحدث خارج أمريكا هدفه تحقيق عدالة عالمية، وهو ما لا يمكن مقارنته باحتجاجات الجامعات الأمريكية ضد حرب فيتنام في تلك الفترة كون عنصر الخدمة العسكرية كان هاجساً للرأي العام الأمريكي بما فيهم طلبة الجامعة.
تاريخ الجامعات الأمريكية في مناهضة استبداد البيت الأبيض للعالم
للجامعات الأمريكية تاريخ جيد في مناهضة استبداد حكومتهم للعالم، ولهم تجاربهم المريرة في الوقوف أمام صقور البيت الأبيض من متبني نظريات الحروب الاستباقية والانتقامية والاستعمارية، ولعل ما حدث بجامعة “كنت” الحكومية في 4 أيار 1970 من قمع لانتفاضة طلابها ضد حرب فيتنام، قتل فيها الحرس الوطني الأمريكي أربعة طلاب، وجرح تسعة، أحدهم أصيب بشللٍ دائم؛ رغم احتجاجهم السلمي ضد تلك الحرب، وقد برّأت المحكمة عناصر الحرس الوطني المتورطين بقتل وجرح عدد من طلاب هذه الجامعة.
بعد عشرة أيام من حادثة جامعة “كنت” تم إطلاق النار عشوائياً على طلاب محتجين في جامعة “جاكسون” الحكومية، في ولاية مسيسيبي الأمريكية، في 14 أيار 1970، شمل إطلاق النار العشوائي السكن الجامعي، وكالعادة لم يتم إدانة أحد.
وفي جامعة “ساوث كارولينا” الحكومية في 8/2/1968، أطلقت دورية شرطة النار على طلاب محتجين من أجل الحقوق المدنية، فقتلت 3 منهم وجرحت 28 طالباً وانتهت القضية وكأنها ضد مجهول.
فكما للجامعات الأمريكية تاريخ من الوقفات الاحتجاجية، للشرطة الأمريكية أيضاً تاريخ من القمع وممارسة العنف الغير مبرر في مواجهة مطالب محقة، فهل حققت آلة القمع الأمريكية هدفها؟!!
كان من أهم نتائج قمع الحراك الطلابي في جامعة “كنت” أن زاد عدد المناهضين لحرب فيتنام في حينها من بضعة آلاف إلى أكثر من أربعة ملايين، ونجحت في تنفيذ أكبر اضراب طلابي يشهده تاريخ أمريكا، بعد أن أغلق 450 حرماً جامعياً أبوابه تضامناً مع القضية التي ينادي بها طلاب الجامعة.
الفكر المناهض للصهيونية يقتحم أسوار الجامعات الأمريكية المحصنة بالسرديات الصهيونية
برغم اتساع جغرافية الشارع الأمريكي وخروج عدد من المظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية، إلا أن دخول فكرة مناصرة القضية الفلسطينية إلى سور الجامعات الأمريكية شكّل نقلة نوعية في مسار مناصرة القضية الفلسطينية؛ نجحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أشكالها من اختراق حالة التعبئة الحكومية السامة تجاه فلسطينية عبر أقنية الإعلام التقليدية ل “مردوخ” الصهيوني ومن على شاكلته.
وهو ما دفع بعض الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا الأمريكية لتنفيذ اعتصام في منتصف شهر نيسان داخل حديقة الحرم الجامعي احتجاجاً على الاستثمارات المالية المستمرة للجامعة في الشركات التي تدعم احتلال فلسطين و”الإبادة الجماعية” في غزة، وتم اعتقال 108 منهم.
وقد أدى لجوء رئاسة الجامعة تحت ضغط مسائلة الكونجرس لهم إلى طلب تدخل شرطة مكافحة الشغب باعتقال أكثر من مئة طالب نصبوا خياماً في الحرم الجامعي، وتعرضوا للضرب والاعتقال، وهو الأمر الذي نجم عنه ردة فعل أثارت مشاعر الغضب لدى طلاب الجامعات الأخرى كما حدث مع طلاب كلية “إيمرسون” بولاية ماساتشوستس الأمريكية.
لكن ماهي أهم مطالب المحتجين في الجامعات الأمريكية؟
لم تكن سقف مطالبهم مرتفعة حتى يستحقوا كل هذا العنف لكن الإنسانية التي ينادون بها هي في صميم الاتجاه المعاكس للكيان وداعميه في مراكز صنع القرار الأمريكي، فقد اقتصرت هتافات الطلبة بالتنديد على استمرار العدوان على غزة وضرورة وقف الحرب عليها، والمطالبة بوقف تصدير الأسلحة للكيان ومقاطعة الشركات التي تزوّد إسرائيل بالأسلحة، وبدأت بعض الأصوات بالتساؤل عن مصير أموال دافع الضرائب الأمريكي، وكيف تصرف؟!! ولمن؟!!
لقد كان اللافت في احتجاجات الجامعات الأمريكية، هو رفع عبارة “فلسطين في كل مكان”، وذلك في إشارة إلى أن القضية الفلسطينية قد تحولت إلى شأن داخلي في أمريكا يحدد على أساسها توجه الرأي العام؛ بطريقة لم يسلم منها حتى تمثال الحرية، حيث صرخ المعتصمون في جامعة كولومبيا النخبوية: “الإمبراطور عارٍ من الثياب”، إذ وقفت الإمبراطورية الأمريكية بلا رداء “سيدة الحرية” والتي يقف تمثالها عند بوابة نيويورك البحرية وهي ترفع “مشعل الحرية” بيمناها، وتضم بيسراها نسخة من “إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية”، والذي يعلن أن “كل البشر خلقوا متساوين”، وهذا ما دفع طلاب الجامعة للتساؤل لماذا لا يتم إنصاف أهل فلسطين أليسوا بشراً؟!!
يبدو أن هذه المطالب محدودة من حيث عناوينها لكنها بالتأكيد تضرب في صميم السياسة الأمريكية ومشروعها الاستعماري في منطقتنا القائم على زرع هذا الكيان ودعمه وتبني كل مواقفه وحتى جرائمه، ولذلك لن يكون هناك مجال لفسح الطريق لهذا الحراك الطلابي أن يستمر، كونه يهدد أسس امبراطورية الشر التي زرعتها أمريكا.
معاداة السامية فزاعة أمريكية لقمع الأصوات المناهضة للصهيونية
لعل من أهم نتائج الحراك الجامعي سقطت أهم أسطوانة كان يتم التعويل عليها لقمع أي حراك مناهض للكيان، وهي “معاداة السامية” التي تحولت إلى أسطوانة مشروخة بعد أن ساء استخدامها بطريقة فجة لقمع العديد الأصوات الأمريكية التي تنادي بشيء من الإنسانية في فلسطين.
وكان من أهم عوامل سقوطها؛ أولاً هو إبراز حجم جرائم الإبادة المرتكبة بحق الفلسطينيين، وثانياً هو مشاركة العديد من اليهود سواء من الطلبة أو هيئات التدريس أو الشخصيات العامة المؤثرة والتي أعلنت عن انتمائها لليهودية كدين سماوي لا كصهيونية عنصرية، وهو ما أربك حملة مكافحة معاداة السامية بعد أن صرح العديد منهم أنهم جزء من هذا الحراك الكبير وأنهم لا يخشون على أنفسهم لأنه لا أحد يستهدفهم كيهود لكن الجميع يستهدفون الإجرام الصهيوني على ما يرتكبه من مجازر بحق الأبرياء في غزة.
ماهي الخطورة التي يشكلها الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية؟
حين ننظر إلى جامعات مرموقة مثل هارفرد وكاليفورنيا وكولومبيا وأنديانا، التي تعتبر تاريخياً المطبخ العالمي لإنتاج النخب السياسية الحاكمة في واشنطن والعالم، أي إن خريجي هذه الجامعات هم من سيقودون أمريكا مستقبلاً، وفي كافة المجالات، وطلاب بهذا الفكر سيقودون تغييراً عميقاً في المجتمع الأمريكي وسياسته التي ستتجه لمعارضة الاحتلال الصهيوني وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما يعني تدميراً شاملاً للفكر الصهيوني وما بناه من سرديات لم يعد الكثير من طلاب الجامعات الأمريكية يستسيغ سماعها.
لقد أطلق البعض على احتجاجات طلاب الجامعات بالثورة الأممية الطلابية في أمريكا، التي يرون أنها تعمم نموذجاً حافزاً تستنهض الشعوب والشباب والطلاب في القارات الخمس وتتحول إلى قوة إسناد لغزة كونها تضرب في العمود الفقري والجملة العصبية لأرباب الكيان الصهيوني وحماته وهنا تكمن أهميتها وتاريخها وما سترسيه من قواعد وقوانين حاكمة في العالم الجديد.
كما تكمن خطورة هذا الحراك الطلابي في الجامعات أنه جاء في الجامعات المصنفة ضمن أهم الجامعات العالمية، فجامعة كولومبيا تعتبر من أكبر الجامعات الأمريكية، ويربطها تعاون علمي وثيق مع الكيان “الإسرائيلي”، ودورها في تطوير العلوم والتكنولوجيات العلمية بلغ أعلى المستويات، وباتت هذه الجامعة ملهمة لبقية الجامعات، وما يؤشر بتحول الحركات المناهضة للكيان ودعم غزة إلى حالة رأي عام في أمريكا، وهو ما تخشى الإدارة الأمريكية الوصول إليه من خسارة معركة تزييف الوعي التي يقوم بها الإعلام الأمريكي المتصهين لصالح الكيان.
وهو ما أغضب الـ نتن ياهو وجعله يخرج عن صمته بتصريح محرض ضد طلاب الجامعات الأمريكية متهماً إياهم بمعاداة السامية وأنهم أشبه بالنازيين.
لم يكن يعلم أنه بتصريحه هذا صبّ الزيت على النار، لتتمدد مساحة احتراق الفكر الصهيوني إلى جامعات أكثر في أمريكا، بل أن عدوى الاحتجاجات قد عبرت إلى الضفة الأخرى من الأطلسي، إلى الجامعات الأوربية
الاحتجاجات التضامنية مع غزة تجتاز حدود الأطلسي
انتقلت “عدوى التضامن” إلى فرنسا، حيث قامت شرطتها بإخلاء مدرج لجامعة “ساينس بو باريس”، من عشرات الطلاب المؤيدين لفلسطين، الذين طالبوا بإنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فيما شارك آخرون بوقفة لذات الهدف أمام جامعة السوربون.
وفي برلين، مظاهرة احتجاجية ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، اعتقلت الشرطة فيها عدداً من المتظاهرين أثناء محاولاتها تفريقهم بعد نصبهم خياماً على قارعة الطريق، مع توقعات بامتدادها إلى دول وجامعات أخرى مع الزخم الذي تحظى به القضية الفلسطينية حالياً.
كما نصب المئات من الطلاب المؤيدين للفلسطينيين في جامعة سيدني بأستراليا، خيماً في الحرم الجامعي واحتجوا على الهجمات الإسرائيلية على فلسطين.
ولم تخلو حتى الدولة التي كانت وراء الوعد المشؤوم من حراك متزايد، حيث نظم طلاب كلية لندن الجامعية (UCL) في بريطانيا وقفة احتجاجية داخل الكلية لمطالبة إدارة الجامعة بقطع علاقاتها مع شركات السلاح الداعمة لإسرائيل.
ختاماً
علينا أن لا ننسى أن أمريكا “آلهة الحرية” في العالم وقبلة من ينعتون أنفسهم “بالأحرار” في بلداننا لكن كيف ينظرون إليها اليوم وهي تقمع طلاب جامعاتها السلميين؟!!
في عودة لبدء ما سمي بالربيع العربي شهدنا أيضاً محاولات من قبل بعض الجهات التشويش على مسيرة التعليم الجامعي في أكثر من بلد عربي بما فيهم سوريا؛ التي كانت القرارات الجامعية فيها وحدها الناظمة لشؤون هذه العملية، ولديها من الإجراءات ما يحمي هذه الاستمرارية، ونتذكر وقتها تصريحات البيت الأبيض حول حرية الاحتجاجات المقدسة في الجامعات السورية، تلك التصريحات التي جعلت من أمريكا صنم الحرية المقدسة التي غيروا قبلتهم إليها.
كيف ينظرون اليوم إلى قمعها للطلاب هناك، ولقرارات الفصل الجامعي التي صدرت بحق العديد منهم، وسياسة العزل أو الإكراه على تقديم الاستقالات، عدا عن اعتقال هيئات تدريسية ورؤساء اقسام في الكليات.
جميعها أمور تتطلب من الجميع مراجعة حساباتهم، وأن ما أرادوه لنا لم يكن حرية بقدر ما كان حريقاً يسعون لتأجيجه، فهل سيراجع المخدوعون بأمريكا حساباتهم؟!! ليدركوا كم هو حجم الإجرام الذي ارتكبوه بحق وطنهم وزملائهم في الجامعات؟!
تابعنا عبر منصاتنا :
تيلجرام Aleppo News
تويتر Aleppo News
أنستغرام Aleppo News