رجلٌ واحد وزع نفسه على أصقاع البلاد ما بين حلبٍ خَبُرت جيداً صبره وحنكته العسكرية، وعراقٍ عرف إيمانه فوهبه شهادةً بطعم التمر، وجنوبٍ قاتل فيه ذات 2006، وسبتٍ للصهاينة أحاله مأتماً، وانتهاء بقدسٍ أحبها وأحبته فوهبته اسمها فصار “شهيد القدس” الحاج “قاسم سليماني” أبو الجبهات على امتداد المحور.
رحلة الكفاح بدأت منذ الطفولة:
في يوم ممطر من 11 آذار 1957 ولد “قاسم سليماني” في قرية “قَناة مَلِك “من توابع مقاطعة “رابر” بمحافظة “كرمان في” إيران، وعمل في شبابه عامل بناء ليساعد أباه على سداد ديونه.
انخرط اللواء سليماني في العمل السياسي _ العسكري باكراً، من النضال ضد نظام الشاه قبل انتصار الثورة إلى التحاقه بالحرس الثوري بعد انتصارها عام 1981، إلى تولّيه حماية مطار محافظة كرمان مع بدء طائرات النظام العراقي بقصف المطارات الإيرانية، ليترأس بعدها مجموعة عسكرية عديدها (300) للقتال في “سوسنغرد”.
وقد التحق بحرس الثورة الإيرانية في أوائل عام 1980م، وشارك في الحرب العراقية الإيرانية منذ بدايتها وقاد فيلق 41 المسمى “بثأر الله” وهو فيلق محافظة “كرمان” خلال الحرب.
ثم ترقى ليصبح واحداً من بين عشرة قادة إيرانيين مهمين ليعين لاحقاً في عام 1998 عُيّن قائداً لفيلق القدس في الحرس الثوري خلفًا “لأحمد وحيدي”، وفي 24 كانون الثاني 2011 رُقي من رتبة عقيد إلى لواء.
الانطلاقة كانت إيران والهدف طرد الاحتلال الأمريكي:
كان للشهيد “سليماني” بصماته على اتساع الجمهورية الإيرانية وكانت حرب الثماني سنوات دليل واضح على دهائه العسكري، خاض خلالها الشهيد سليماني الكثير من العميات العسكرية ، وبعد تراكم خبراته وبروز شخصيته وشهرته الميدانية الواسعة تعرّض لمحاولة اغتيال بعد إصابته في عمليات “طريق القدس” قام بها الطبيب المعالج له، إلا أن المحاولة سرعان ما كُشفت واحبطت.
أينما وجد الحاج “قاسم سليماني” هزمت أمريكا ففي لبنان كان الشهيد “سليماني” واحداً من الموجودین مباشرة في غرفة العمليات المرکزیة وذلك لتلبية الحاجات الطارئة والملحة ولإعطاء الرأي في بعض الخطط العسكرية، وفي عراقٍ كان يحكمه الأمريكيون من “المنطقة الخضراء” أنفق الشهيد ثماني سنوات من عمره حتى طرد الاحتلال الأمريكي، ثم بمساعدة رفيق دربه الحاج “أبو مهدي المهندس” قام بتفعيل منظمة “بدر” العسكرية التي كانت نواة للحشد الشعبي الذي هزم تنظيم “داعش” الإرهابي فيما بعد ، أما في سوريا فمع بداية الحرب عليها كان على رأس “قوة القدس” في مواجهة زحف الجماعات الإرهابية وحماية المقدسات إلى جانب القوات السورية، فأشرف على أشرس المعارك وكسب معركة “باب عمرو” التي كانت تُعد بمثابة “غرفة عمليات لسقوط دمشق”، إضافة إلى معركة حلب وريف حمص ومعركة القصير عام 2013 والتي وصفها الضابط في وكالة المخابرات الأمريكية” بالمنعطف الاستراتيجي” وهو نصرٌ سجله “سليماني” وصف بعده بأنه “أقوى رجل في الشرق الأوسط”.
وابتداءاً من أطراف ريف دمشق وتحديداً منطقة السيدة “زينب ” إلى شرق سوريا حيث معركة ” البوكمال ” التي كانت الشعرة التي قصمت ظهر أمريكا وأتباعها في المنطقة، وأخيراً مهوى فؤاد الشهيد “سليماني” “فلسطين” فمن أنفاق غزة وسلاحها النوعي إلى قبة القدس التي أفنى الشهيد سنوات عمره كي يصلي على أرضها، كل الزوايا في فلسطين لها ذكريات مع الحاج “سليماني” وصولاً لمعركة 7 أكتوبر التي تفوح منها رائحة كف هذا الرجل الذي لغيابه طعم مُر.
المواقف تصنع الشهداء أيضاً
حياة رجل كالحاج “سليماني” حتماً لن تكون اعتيادية، تشهد على ذلك أحاديث الرفاق الذين عاشروه عن قرب ومن الحوادث التي لم تظهر لوسائل الإعلام، ما حدّث به أحد الذين خاضوا معه معركة “خان طومان” أن الحاج “قاسم” كان على الدشمة الأمامية يمسك منظاره ويمسح أرض المعركة بعين العسكر إلا أن جاء الطعام حينها أمسك الحاج قاسم وجبة “الرز” وبدأ يطعم كل شخص حوله ملعقة من وجبته ثم بعدها أكمل ما بقي من الوجبة وقال لمن حوله أدعو لي بالشهادة ، وحدث آخر، أن الحاج “قاسم” في معركة “تلة العيس” قام بتشغيل النار وتجهيز الشاي بنفسه للرفاق الذين كانوا معه ، وأكثر ما يمكن ان يثير العجب أن قائداً كالحاج “قاسم” كانت تُسخّر له كل الإمكانات والموارد لكنه كان يرفض أن يتناول إلا ذات الوجبة التي يتناولها العسكر في الجبهات وكان يقول “لن يسامحني الله أن أكلت لقمة واحدة غير الوجبة الموجودة على برنامج الطعام”
مثله لا يموت إلا شهيداً:
كالأنبياء كان الحاج “قاسم” يرفض العيش الذليل ويطلب الشهادة بجوارحه فجاء في وصيته التي كتبها حروفاً «إلهي! أيّها العزيز! لقد تخلّفتُ لسنوات عن القافلة، وقد كنتُ دومًا أدفع الآخرين إليها، لكنّي بقيتُ متخلّفًا عنها، وأنت تعلم أنّي لم أستطع أبدًا نسيانهم، فذكراهم وأسماؤهم تتجلّى دائمًا لا في ذهني، بل في قلبي وفي عينيّ المغرورقتين بدموع الحسرة.
وقال في آخر لحظات حياته: “إلهي، أنا عاشق للقائك، ذلك اللقاء الذي أعجزَ موسى عن الوقوف والتنفّس ، إلهي اقبلني طاهرًا! “
ولأن الله لا يرد عن بابه وجوه عباده الحزانى فقد قبله الله شهيداً في 3 يناير 2020 بضربة غادرة من العدو الأمريكي فارتقى شهيداً مع صديق دربه وعمره الحاج “أبو مهدي المهندس” بعد أن أعاد للمقاومة هيبة العسكر ووضع قواعد جديدة لمعركة الخلاص الأخير من عدو فهم تماماً أن نهايته قد اقتربت.
الأبناء لا يخونون يا أبتاه:
لم يمر على وجه البلاد رجل كالشهيد “قاسم سليماني”، ولم يمر على وجهنا حزناً كحزن فراقه، ولكن ثمن هذا الدم هو حتماً زوال الكيان الصهيوني من الوجود وعلى هذا أقسم المحور الذي تركه خلفه (رفاقاً وأبناء) والأبناء كما يعلم الحاج “قاسم” لا يخونون آبائهم ، لذا آخر حديثنا هو كما آخر حديثه تماماً “يقيناً كله خير”.