أخبار حلب _ سوريا
شهدت الألفية الثانية في سوريا تولي الدكتور “بشار الأسد” الرئاسة في سوريا بعد رحيل القائد “حافظ الأسد” منتصف عام 2000؛ وهو ما شكل تحدياً كبيراً حول نهج السياسة الخارجية للدولة السورية في ظل العهد الجديد.
حيث وجدت دول الغرب ومعها الدول المسماة بالاعتدال العربي فرصة سانحة في الدخول عبر مخطط إعادة تشكيل الخط السياسي الخارجي لسوريا؛ بما يتفق والمشروع الذي تم التخطيط له في دوائر التأثير الغربي، على اعتبار أن تولي رئيس شاب في سوريا كفيل بتحقيق ذلك الهدف الذي تحطم على صخرة الثبات على المبادئ التي كان عليها الرئيس الراحل حافظ الأسد.
لكن مرور الوقت كان كفيلاً بتبديد ذلك الوهم؛ حيث وجد الغرب نفسه أمام قائد شاب أكثر صلابة وتمسكاً بحقوق وطنه وأمته وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي كانت نقطة اللقاء والتقارب مع إيران أكثر من أي وقت مضى؛ خاصة باختيار الرئيس “بشار الأسد” زيارة إيران في العام 2001، ولقاء المرشد الأعلى السيد “علي الخامنئي” ورئيس الجمهورية آنذاك، “محمد خاتمي”.
في الانتماء لمحور المقاومة لا تفريط ولا مساومة
كما برهنت الأحداث التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المحتلة باندلاع انتفاضة الحجارة الثانية جوهر الموقف السوري الداعم للقضية الفلسطينية بشتى أشكال الدعم والإسناد، ورفض تهديدات “كولن باول” وزير خارجية أمريكا الموجهة لسوريا، عقب احتلال بغداد بإخراج الفصائل الفلسطينية من سوريا.
كل تلك المؤشرات كانت من العوامل المعززة لتعميق التحالف الاستراتيجي بين سوريا وإيران الذي أرسى دعائمه القائد الراحل حافظ الأسد وقائد الثورة الإسلامية في إيران الإمام الخميني.
لم يكن ذلك التقارب محل رضا دول الاستكبار العالمي، التي ناصبت سوريا كما إيران العداء؛ ولذلك كانتا محط استهداف بالعقوبات والحصار والتلويح الدائم باستخدام القوة.
لم تخلق تلك التحديات التي واجهتها الدولتان سوى مزيد من التلاحم والتقارب وتعزيز التنسيق المشترك بين البلدين، عكسته تلك اللقاءات والزيارات بين قيادات البلدين، وما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون وتكامل بينهما.
تعزيز أواصر العلاقات تبدأ من تبادل اللقاءات الرسمية.
أتت زيارة الرئيس “بشار الأسد” لإيران عام 2001 كأول زيارة لبلد غير عربي بعد مرور أقل من عام على انتخابه رئيساً للجمهورية العربية السورية؛ بمثابة تأكيد على المضي قدماً في تعزيز التنسيق والترابط الذي يجمع البلدين، ودحضاً للتخرصات التي أرادت حرف تلك العلاقات عن مسارها القائم على توحيد الرؤية وتنسيق المواقف.
لم تتأخر إيران برد الزيارة الرسمية إلى دمشق عام 2003، وسط أجواء ساخنة شهدتها المنطقة جراء التحضيرات الأمريكية لغزو العراق وما سيؤدي به ذلك إلى خلط الأوراق في المنطقة، وجعلها على مفترق طرق من الفوضى والاضطرابات التي بشرت به وقتها مستشارة الأمن القومي الأمريكي “كونداليزا رايس” بمخاض “الشرق الأوسط الجديد” تحت سياسة الفوضى “الخلاقة” التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية لتعويم الكيان الصهيوني في الوطن العربي.
مواجهة النفوذ الصهيوأمريكي خيار مشترك بين سوريا وإيران
وأمام تلك العاصفة الهوجاء القادمة على حدود البلدين، كان على إيران وسوريا تعزيز التقارب والتنسيق أكثر، ودعم قوى محور المقاومة في المنطقة، في مواجهة الكيان الصهيوني، عبر دعم المقاومة اللبنانية وقوى المقاومة في العراق وفلسطين، بكل مستلزمات القوة والصمود الذي تحتاجه في أي مواجهة محتملة مع العدو الصهيوني والأمريكي.
ويرى المتابعون لسير العلاقات السورية الإيرانية استمرار التشاور والتنسيق فيما بينهما بما يعزِّز الأهداف المشتركة ويفعل مسيرة التعاون الثنائية بهدف تكريس الأمن والاستقرار في المنطقة وإرساء أسس تخدم مصلحة الشعبين وشعوب الدول المحيطة بشكل عام.
وبحكم الموقف المعلن من الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ انتصار ثورتها عام 1979 بدعمها للحقوق العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وحق سوريا في استعادة الجولان المحتل، فقد أعطت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين في البلدين مؤشراً على أن العلاقات السورية الإيرانية استراتيجية وعميقة في شتى المجالات.
وجاء الموقف الإيراني داعما لسوريا في موقفها المعادي للوجود الصهيوني في المنطقة، وتزايد النفوذ الأمريكي عليها، ولذلك يمكننا القول أن الانتصارات التي حققتها المقاومة اللبنانية في حربها ضد العدو الصهيوني عام 2006 كان ثمرة التعاون السوري والإيراني في رفد المقاومة اللبنانية بما يعزز قوتها سياسياً ومالياً وعسكرياً، وهو الأمر ذاته الذي انسحب على تنامي قوة المقاومة الفلسطينية خاصة في قطاع غزة الذي بات يشكل أرقاً مزمناً للعدو يصعب عليه ابتلاعه أو التخلص منه، كما كان الوضع في العراق ساحة ملتهبة أجبرت المحتل الأمريكي أن يسحب قواته مرغماً عنها.
تعاظم التحديات زاد من حجم التلاقي بين سوريا وإيران
ومع بدء المؤامرة الكونية ضد سوريا، كان أحد أهم أهداف تلك المؤامرة هي الضغط على سوريا على فك عرى الترابط والتلاحم الذي يجمعها بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، بما يعني ذلك خروج سوريا عن خط المقاومة والدخول في متاهة المفاوضات مع الكيان لرسم ملامح الاستسلام العربي الكامل في مواجهة الكيان.
وكان لموقف سوريا الراسخ في الدفاع عن ثوابتها رغم اندلاع شرارة الأحداث عام 2011 في أراضيها ضمن موجة الخريف العربي التي اجتاحت دول الوطن العربي المؤثرة، وصولاً إلى الهدف النهائي من هذه الموجة وهو إسقاط دمشق بما تمثله من قلعة الممانعة والصمود في مواجهة النفوذ الأمريكي والصهيوني.
موقف إيران المبدئي مما يحدث في سوريا
لم تتوانى إيران منذ الوهلة الأولى لما سمي بالحراك المناهض للدولة السورية من الدخول على خط محاولة تهدئة الوضع عبر التواصل مع المكونات السياسية في سوريا للخروج بحلول سياسية تجنب سوريا التدمير والاقتتال، وعليه عقدت مؤتمر أصدقاء سوريا الحقيقين في طهران، وحين تكشفت أبعاد المؤامرة وأهدافها كان الموقف الإيراني في دعمه للدولة السورية بارزاً، ومؤثراً وهو ما أشار إليه السيد الرئيس “بشار الأسد” حين قال “أما إيران فلن تتوانى عن الوقوف معنا منذ اليوم الأول، قدمت السلاح والعتاد دون حدود، أرسلت المستشارين العسكريين والضباط لمساعدتنا في التخطيط، دعمتنا اقتصادياً في ظروف مررنا بها كانت صعبة جداً، خاضت معنا المعارك السياسية في كل المحافل الدولية، وأثبتت بكل موضوعية أنها سيدة قرارها، وأنها وفية لمبادئها، وأمينة موثوقة على العهود التي تقطعها”.
وهو ما برهنته إيران بوقوفها إلى جانب سوريا في شتى المجالات رغم الظرف الصعب الذي عاشته سوريا؛ بفرض العقوبات الأحادية عليها كقانون قيصر الذي استهدف حتى الدول التي تمد يد العون للاقتصاد السوري.
ومع كل ذلك كانت إيران وفية في شراكة الحياة مع سوريا ووحدة مصير الذي يجمعهما كدولتين تقودان مشروع النهوض والتحرر من الهيمنة الأمريكية، في أن تكون السند الحقيقي لدعم سوريا لتبرهن أن علاقتها مع دمشق أكثر تحالف.
حيث كان لوقع الاستجابة الإيرانية لطلب الدولة السورية في تقديم الدعم اللازم وعلى المستويات كافة، إيماناً بأهمية الحفاظ على موقع سوريا في التوازنات الإقليمية، وضرورة تقويض مساعي تحجيم دورها الإقليمي، وهو ما استمر في كل مراحل الحرب على سوريا سواء العسكرية أو السياسية والاقتصادية رغم كل الظروف الصعبة وتداعياتها، وكان التعاون في القضاء العسكري على التنظيم الإرهابي التكفيري “داعش” واستعادة السيطرة على معظم الأراضي السورية.
استمر ذلك الدعم الإيراني لسوريا القائم على مبدأ احترام سيادة الدولة السورية وقرارها ووحدة أراضيها وتعزيز التعاون، وتعمق أكثر في العام 2021 عندما تم كسر الحصار الأمريكي عن سوريا عبر ناقلات النفط الإيرانية والمواد الغذائية.
وامتد التعاون الإيراني السوري ليشمل تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين عبر الاستثمارات الإيرانية في البنى التحتية السورية ووسائط النقل وتأمين كميات من الغاز الطبيعي الإيراني لسوريا.
حجم الاستثمارات الإيرانية في سوريا
وفقًا للتقرير السنوي الخامس 2010 لهيئة الاستثمار السورية، خلال الفترة الممتدة من عام 2006 وحتى عام 2010 استثمرت إيران في سوريا في سبعة مشروعات بتكلفة استثمارية بلغت أكثر من 20 مليار ليرة سوريا.
ووفقًا لتقارير صحافية، قدَّرت الحكومة السورية الاستثمارات الإيرانية خلال عام 2006 فقط بما يزيد على 400 مليون دولار؛ الأمر الذي جعل طهران ثالث أكبر مستثمر في سوريا، وفي أيلول 2006 كان مسؤولون من الدولتين قد أعلنوا آنذاك عن خطط لتوسيع مشاريع إيرانية في سوريا بقيمة 10 مليارات دولار على مدى السنوات الست التالية.
وأما بعد اندلاع الأزمة، في نيسان عام 2012 عقد الجانبان الإيراني والسوري اتفاقية التجارة الحرة التي نصَّت على خفض الحواجز الجمركية تدريجيًّا، وذلك بحيث لا تزيد عن حدود 4%مستقبلاً، وهو ما استُهدف من خلالها آنذاك رفع حجم التبادل التجاري إلى ملياري دولار في الأعوام التالية بحسب ما صرَّح به مسؤولون إيرانيون.
إذ تشير مؤسسة تنمية التجارة الإيرانية إلى صعود حجم التبادل التجاري بين البلدين من 430 مليون دولار في عام 2010 إلى 869 مليون دولار في عام 2014، ولكن وفقاً للملحق التجاري بالسفارة الإيرانية بدمشق علي کاظميني، وصل حجم التبادل التجاري إلى مليار دولار في ذلك العام.
كل تلك المساندة الاقتصادية في زمن الحروب لا تقل عن العسكرية، ويمكن استعراض أهم المساعدات الاقتصادية الإيرانية لسوريا خلال فترة الحرب عليها، والتي كان الهدف منها تعزيز موقفها ومواصلة الحرب ضد المجموعات الإرهابية:
1_خطوط ائتمان: إيران فتحت خطوط ائتمان لسوريا بقيمة تُقدر بمليارات الدولارات، مما ساعد الدولة السورية على تأمين السلع الأساسية مثل النفط والقمح والأدوية.
2_الطاقة والبنية التحتية: إعادة تأهيل مرافق الطاقة في سوريا، وبناء محطات جديدة لتوليد الكهرباء من المشروعات التي شاركت فيها إيران، إلى جانب إصلاح وتحديث الشبكات الكهربائية.
3_الدعم العسكري والسياسي: إلى جانب الدعم الاقتصادي، قدمت إيران مساعدة عسكرية كبيرة ودعمت فيها الدولة السورية سياسياً في وجه الضغوط الدولية.
4_صادرات النفط: بالرغم من العقوبات المفروضة عليها، وجدت إيران طرقاً لتوريد النفط إلى سوريا، مما ساهم في تخفيف أزمة الطاقة التي عانت منها.
5_الاستثمارات والتجارة: الشركات الإيرانية شاركت في مشاريع مختلفة منها الزراعة والإنشاءات، فضلا عن تعزيز التبادل التجاري مع سوريا.
حيث تُعتبر هذه المساعدات مؤشرًا على العلاقات الوثيقة بين البلدين، فإيران تعتبر سوريا حليفًا استراتيجيًا في المنطقة، ولاسيما في تعزيز محور المقاومة ضد النفوذ الإسرائيلي والغربي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن سياسة الدعم هذه جاءت مع تكاليف مالية كبيرة لإيران، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية التي تواجهها نتيجة العقوبات الدولية.
و بلغ التعاون بين إيران وسوريا ذروته في عام 2019 حين وقع البلدان 11 اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامجاً تنفيذياً لتعزيز التعاون بين البلدين في المجال الاقتصادي والعلمي والثقافي والبنى التحتية والخدمات والاستثمار والإسكان وذلك في ختام اجتماعات الدورة الـ 14 من أعمال اللجنة العليا السورية- الإيرانية المشتركة التي عقدت في دمشق.
الجسور التي بنتها المواقف.. لا تزعزعها المغريات
يأتي التعاون والتلاحم بين سوريا وإيران معززاً بفترة قاسية من مواجهة الإرهاب والتطرف الذي ضرب سوريا، وشكل تلاحمهما سداً منيعاً أمام حالة الانهيار الذي كان يتم التخطيط لها، ودفعا معاً ثمن هذا النصر رتلاً من الشهداء والتضحيات في سبيل تحقيق هذا النصر.
هذا التعاون الإيراني السوري كان تجسيداً لرؤية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران السيد “علي خامئني” الذي يرى في أن صمود الرئیس والشعب في سوريا وإصرارهما على نهج المقاومة شكل رمزاً للانتصارات المحققة في هذا البلد وهزیمة أمریكا ومرتزقتها في المنطقة.
كما هو تعبير عن توجه السيد الرئيس “بشار الأسد” في تطوير العلاقة مع إيران إلى أوسع أفق حين أكد ذلك في مقولته: “ترجمة العمق في العلاقة السياسية بين سوريا وإيران إلى حالة مماثلة في العلاقة الاقتصادية هي مسألة ضرورية، ويجب أن تستمر حكومتا البلدين في العمل عليها لتقويتها وزيادة نموها”.