حين اكتشف كولومبوس القارة الأميركية التي كان يقطنها الهنود الحمر، قدم لهم استعراضاً مزيفاً اعتمد فيه على معرفته بعلم الفلك، حيث أعلن للقوم حدوث كسوف للشمس، فارتعدت فرائصهم عند وقوع الكسوف فعلاً، وظنوا ذلك ناتج عن قدرة كولومبوس الخارقة على إخفاء نور الشمس كما أنذر وأوعد، ثم تكرم بإعادته للإشراق كما وعد، فركع الهنود الحمر لكولومبوس قابلين به قائداً للغزاة وحاكماً مقدّساً.
ومنذ ذلك الوقت صارت سياسة السيطرة بالشعوذة والتجهيل والإيهام والتضليل منهجاً اعترف كبار المفكرين الأمريكيين باتباعه في حكم العالم كاستراتيجيات التحكم بعقول الشعوب للمفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي”، ولكن هذا الأمر لم يدم طويلاً فما حدث كان صادماً للأمريكيين.
إن أمريكا لم تكن قادرة على السيطرة في عالم مترامي الأطراف بجغرافيتها المحدودة والبعيدة عن مركز الثقل الجيواستراتيجي، من أجل ذلك كان لابد من التحكم بطريقتين:
الأول:
إيجاد فرع لها في الوسط فكانت إسرائيل التي هي عبارة عن ولاية أمريكية في حقيقة الأمر مهما حاول الساسة الإسرائيليون الإنفطام عن المنشأ بعد الخلافات الأخيرة.
الثاني:
تجزئة الجغرافيا السياسية إلى دويلات وكل دولة متصلة بمنظومة حكم تنفيذية للسياسات والإملاءات الأمريكية وهذا ما سعت إليه بعدة محاولات لسايكسبيكو متعددة الوظائف والأشكال بأساليب غير واضحة للرأي العام بينما تستمر الشعوب بلعن سايكسبيكو بنسخته القديمة.
بينما نجح الأمريكيون بطعن الخنجر الإسرائيلي في قلب الشرق الأوسط لكنهم فشلوا في أن يتقدموا خطوة جديد في استكمال المخطط والذي يُعرف بالحلم الإسرائيلي من البحر إلى النهر أو حتى تحقيق الهدف من التواجد الإسرائيلي في فلسطين وهو السيطرة الأمريكية على المنطقة وحتى مع وجود قواعد أمريكية داعمة وكذلك نفوذ أمني واستخباري واسع، وخسران الرهان الأمريكي هذا كان بفعل المقاومة الفلسطينية وكذلك بفعل دعم هذه المقاومة بكافة الأشكال من قبل دولتين في المنطقة هما سوريا وإيران.
ورغم إدراك الإدارة الأمريكية أنه لا منفذ لإطباق القبضة الفولاذية على منطقة الشرق الأوسط سوى إزالة تلك العثرتين سوريا وإيران من طريق تمدد إسرائيل واتخاذ القرار باتجاه تدميرهما معاً وصبّ كل جهودها بكافة الأشكال من حرب عسكرية وإعلامية وخلق اقتتال داخلي إلى حصار وعقوبات واحتلال أجزاء من الأرض السورية إلا أنه وبعد سنوات طويلة كل الخطوات التي خططت لها الإدارة الأمريكية وقعت في فخها تماماً كما لو كانت تخطط على نفسها فالذي حصل بعد سنوات الحرب السورية الطاحنة أن التحالف الأمريكي في المنطقة بدأ يتفكك وأمريكا تخسر أحجار الشطرنج من يدها خصوصاً بعد المصالحة الإيرانية السعودية.
وبعد أن أرادت أمريكا أن تستمر الحرب داخل الحدود السورية وبالأدوات التحكم عن بعد إلا أن أمريكا والأوبيون بدأوا يتذوقوا مرارة السم نفسه بعد اندلاع الحرب الروسية الأمريكية في أوكرانيا وتفجر التظاهرات في بريطانيا وألمانيا وفرنسا والداخل الإسرائيلي.
وبعد أن سعت إسرائيل لتفكيك التحالف الذي يقف في مواجهتها من خلال التفريق بين الفصائل الفلسطينية وهذا ما بدا جلياً في معركة وحدة الساحات حيث أعلنت إسرائيل الحرب على الجهاد الإسلامي وأومأت لحماس بأنها ليست هدفاً لإسرائيل مالم تتدخل في الحرب، فكانت المقاومة واعية لهذا الفخ وأنشأت غرفة عمليات مشتركة لإدارة المعركة التي أطلقت عليها “وحدة الساحات”.
وكذلك سعت في سوريا بنفس الخدعة لفصلها عن جسم المقاومة من خلال الاعتداءات التي تدعي فيها استهداف المقرات الإيرانية ومواقع حزب الله كما أومأت أكثر من مرة للجيش السوري عبر منشورات ورقية وحرب إعلامية نفسية أنه ليس هدفاً لإسرائيل مالم يتدخل في المواجهة ولكن الحقيقة أن كل دول المنطقة وجيوشها ومقدراتها هدف لإسرائيل وما يثبت أن الجيش السوري هدف لإسرائيل بالأصل هو الدعم الذي تلقته الفصائل المسلحة وبالأخص جبهة النصرة من الكيان الإسرائيلي بشكل مباشر وغير مباشر وأن تلك الإيماءات التغريرية ليست سوى لفصل كل ضحية عن شقيقتها طالما أنها غير قادرة على الانقضاض على تحالف ممتد من سوريا للبنان للعراق وإيران واليمن وغزة.
لكن مرة أخرى انقلب السحر على الساحر من خلال تطور معركة وحدة الساحات لتذهب أبعد من غرفة عمليات مشتركة للفصائل الفلسطينية، بل أيضاً جغرافيا مشتركة وجبهات متعددة تدخل المعركة في حال فكر الإسرائيلي تجاوز الحد.
فحين تجاوزت إسرائيل الخط الأحمر الذي حذر منه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وهو المسجد الأقصى وأمعنت بالاعتداءات على المصلين والمعتكفين في المسجد خلال شهر رمضان كان الرد متعدد الجبهات من لبنان وسوريا وغزة.
وبدأت التخوفات تتعاظم بين أوساط قادة الجيش الإسرائيلي والمحللين السياسيين من أن مستقبل إسرائيل القاتم سيتجاوز حدود المقاومة المتعاظمة والعمليات المتفاقمة والوضع الداخلي المتآكل والإدارة السياسية المهترئة ليصل إلى أن تضطر إسرائيل على مواجهة جبهات متعددة تصل حتى اليمن والعراق بيتما خسرت تحالفاتها التي تحاول استجماعها عبر مايسمى موتمري النقب والعقبة، وجل ما يستطيع أن يقدمه لها التطبيع العربي مع إسرائيل والذي يعرف باتفاقيات ابراهام للسلام لا يستطيع إيقاف شاب فلسطيني ملثم عن تنفيذ عملية طعن أو فتح النار على المستوطنات لأنه يعلم أن السلاح هو الطريق الوحيد لاسترداد الحقوق الفلسطينية التي فشلت في استجداء شيء منها اوسلو وكل المفاوضات والاتفاقيات الأخرى.