في يوميات معركة طوفان الأقصى لم يكن السلاح الناري فقط هو الحاضر في أيدي المقاومة على أهميته لكن كانت قذائف الصورة ذات مدى أكثر بعداً وتأثيراً في الوصول إلى قلوب وعقول ووجدان المتابعين الذين شعروا بأنفسهم جزء من معركة يعيشون يومياتها مع كل مقطع يتم بثه من قبل المقاومة الفلسطينية وكأنه مشاهد يومية ينتظرها ملايين المتابعين لما لها من تأثير تشفي بما تراه بعضاً من غليلها تجاه العدوان الصهيوني.
لكن ..هل كانت الكاميرا معدّة لنقل هكذا أحداث ؟!!
لم تبقى الكاميرا على حالها وليست كما يقال عنها بأنها محاولة فاشلة لتحنيط اللحظة بل أصبح وقعها أكثر من ذلك في قدرتها على التأثير في الحاضر والمستقبل، فالكاميرا هي أداة قوية لتوثيق ونقل وتأثير الحروب والثورات في العالم.
فمنذ اختراع التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر، شهدت الكاميرا تطورات تقنية وفنية كبيرة، واستخدمت في تسجيل الأحداث السياسية والعسكرية والإنسانية التي شكلت التاريخ الحديث، كما أصبحت الكاميرا وسيلة للتعبير والانتقاد والتحريض والتضامن والتغيير، بحسب المنظور والهدف والرسالة التي تريد أن تنقلها الصورة.
تاريخ الكاميرا وتطورها في زمن الحروب
في عام 1848 التقط المصور الفرنسي “فرانسوا أراجو” أول صورة لحرب، وهي صورة لثورة باريس ضد الملك “لويس فيليب”، وفي عام 1853 التقط المصور الإنجليزي “روجر فينتون” أول صورة لحرب دولية، وهي صورة لحرب القرم بين روسيا والتحالف الأوروبي، وفي عام 1861 التقط المصور الأمريكي “ماثيو برادي” أول صورة لحرب أهلية وهي صورة لحرب الولايات المتحدة الأهلية بين الشمال والجنوب.
وقد شهدت الكاميرا في القرن العشرين استخدامات متعددة ومتنوعة في زمن الحروب، فبعد حرب القرم والحرب الأهلية الأمريكية، جاءت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، والتي شهدت توظيف الكاميرا في الدعاية والتحريض والتضليل والتشويه، بالإضافة إلى التوثيق والإخبار. وفي الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ازدادت أهمية الكاميرا في نقل الصور الحية والمتحركة للحروب والمعارك والجرائم والمجازر، وخاصة مع ظهور التلفزيون والسينما.
الكاميرا ………………..وطوفان الأقصى!
وفي معارك غزة التي اندلعت في تشرين الأول 2023 لعبت الكاميرا دوراً مهماً في تسليط الضوء على الصراع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وفي تشكيل الرأي العام العالمي تجاه القضية الفلسطينية.
وقد استخدمت الكاميرا في معركة طوفان الأقصى من ثلاث جوانب، حيث استخدمت الكاميرا كسلاح من قبل المقاومة الفلسطينية لتوثيق معاركها وعملياتها وإنجازاتها، كما تم استخدام الكاميرا كوسيلة للدعاية والتضليل من قبل الاحتلال الإسرائيلي لتبرير عدوانه وتشويه صورة المقاومة، ولعل الجانب الأهم هو استخدام الكاميرا كشاهد على الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني والتي اثارت تعاطف وتضامن العالم معه.
الكاميرا كسلاح للمقاومة
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، بثت كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- وسرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي- وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، مقاطع فيديو تظهر عملياتها العسكرية ضد الأهداف الإسرائيلية، سواء على الحدود أو في الداخل الإسرائيلي، واستخدمت المقاومة الكاميرا كسلاح لإثبات قدرتها على مواجهة الاحتلال وإلحاق الخسائر به، ولرفع معنويات الشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية، ولكسر الرقابة والتحريف الإعلامي الإسرائيلي.
حيث نجح هذا التوثيق لعمليات اقتحام المستوطنات ومعسكراتها في كسر هيبة جيش الكيان وإظهار حالة الضعف لدى قادة الجيش وارتباكهم في معالجة هذا الطوفان المقدس الذي اجتاح مستعمراتهم، وهو توثيق تم تخليده في ذاكرة العالم ووجدانه ومن الصعب أن يتم حذف مشاهد جر جندي الكيان اسيراً بعد أن تم اقتلاعه من جوف دبابته التي لم تحمي نفسها من سيطرة المقاومين عليها.
ولعل من بين المقاطع التي أثارت ضجة كبيرة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مقطع يظهر اقتحام مقاتلي المقاومة الفلسطينية لمعسكر كيسوفيم الإسرائيلي وقتل وأسر عدد من الجنود الإسرائيليين، ومقطع يظهر إسقاط طائرة إسرائيلية مسيرة بصاروخ أرض-جو، ومقطع يظهر إطلاق صواريخ على تل أبيب والقدس وغيرها من مدن الاحتلال.
وقد أظهرت هذه المقاطع قوة وجرأة واحترافية المقاومة الفلسطينية، وقدرتها على تنفيذ عمليات متنوعة ومتطورة، وتحديها للتفوق العسكري الإسرائيلي خاصة تلك المشاهد التي اذهلت الصديق قبل العدو حين يتم تلقيم الدبابة قذيفة الموت باليد من النقطة صفر وهي مشاهد قلبت مفهوم الشجاعة والبطولة والإيمان بالقضية والمبدأ الذي يقاتلون من أجله وهو ما جعل الكثير حول العالم يغير نظرته حول المقاتل العربي الفلسطيني وعدالة قضيته.
ولا شك أن حزب الله كان سباقاً بإيمانه بالأثر الكبير الذي تحدثه الكاميرا لذلك كانت ضمن ترسانة أسلحته وفي مقدمتها في كل عملية كانت تستهدف الاحتلال في جنوب لبنان قبل التحرير ولا تزال هذه الاستراتيجية ذاتها لكن بتطور تقني اذهل العدو والمراقبين حين استهدف منصة تجسسيّة في موقع “جل العلام” الإسرائيلي بصاروخ يُستَخدم للمرة الأولى، فقد ظهر، في مقطع فيديو وزّعه الإعلام الحربي للحزب، مسار الصاروخ منذ انطلاقه وحتى انفجاره بالهدف بواسطة كاميرا مثبتة على رأسه ، وهو ما أربك حسابات العدو وإعلامه الذي أسقط في أيديهم بعدم القدرة على إنكار وقوع الإصابة المحققة.
الكاميرا كوسيلة للدعاية والتضليل للإسرائيلي
بالمقابل، حاولت إسرائيل استخدام الكاميرا كوسيلة للدعاية والتضليل لتبرير حربها على غزة، ولتشويه صورة المقاومة الفلسطينية، ولتحقيق أهدافها السياسية والأمنية، ولهذا الغرض اعتمدت إسرائيل على استراتيجيات مختلفة، منها:
التلاعب بالصور والفيديوهات والأرقام لتضخيم خسائرها وتقليل خسائر الفلسطينيين، ولإظهار نفسها كضحية والمقاومة كعدو، فمثلاً استخدمت إسرائيل صوراً قديمة أو مفبركة أو مأخوذة من سياقات أخرى لتدعي أنها تعرضت لهجمات صاروخية أو انفجارات أو اختطافات من قبل المقاومة ، كما استخدمت إسرائيل أرقاماً مبالغ فيها أو مغلوطة لتدعي أنها دمرت مئات المنصات الصاروخية أو الأنفاق أو المقرات العسكرية للمقاومة، وفي الوقت نفسه حاولت إسرائيل تقليل عدد القتلى والجرحى والمهجرين من الفلسطينيين، وتنكر حقيقة أن معظمهم من المدنيين والأطفال والنساء.
ورغم ما يملكه الكيان من تقنيات ومصادر متعددة إلا أنه فشل في هذه التقنية كفشله العسكري في الميدان واظهرت مقاطعه ردات فعل عكسية كشفت مدى التلاعب بالحقائق وفبركة الأدلة كمحاولة اثبات استخدام المشافي مقرات للمقاومة، وحتى مقاطع الاشتباكات الوهمية التي كان المقاتل الصهيوني يبدو فيها بيد مرتعشة تقاتل طواحين الهواء والشبابيك والأبواب.
ما الهدف الحقيقي من اعتماد المقاومة للكاميرا جزءاً من سلاحها المقاوم؟
في كل الأحوال صارت الصورة جزءاً أصيلاً من الحرب الحديثة، وهو ما يعبر عنه أحد مصوري «حزب الله» بقوله:
“ربما تقتل جندياً ما، بينما الصورة التي تنقلها الكاميرا التلفزيونية تقتل آلافاً بل الملايين من الإسرائيليين، وتهزمهم نفسياً في المستوطنات والثكنات العسكرية، فالمقاتل هو الذي يحمل البندقية ويطلق الرصاص على الجندي الإسرائيلي، أما نحن -حاملي الكاميرا- نطلق الرصاص على كل المجتمع الإسرائيلي”