عندما أعلنت فصائل المقاومة بدء عملية طوفان الأقصى كانت تعي جيداً أن حجم الرد الصهيوني لن يكون عادياً ، وأنه سيكون بموازاة حجم الضربة القاسية التي تلقاها على أيدي المقاومين في السابع من تشرين الأول ، ولكن الجميع يعلم أن المقاومة قد أعدت عدتها لهذه المواجهة الشرسة مع الكيان.
لكن إفراط الكيان في استخدام القوة بحيث انتقل من عقلية الحرب إلى عقلية الإبادة للشجر والحجر، وبانتهاكه لكل قوانين وأعراف الحروب استشعر محور المقاومة واجبه في رفض الاستفراد الصهيوني بقطاع غزة وسط دعم أمريكي فاضح ومؤيد للمجازر الشبه يومية المرتكبة بحق أبناء غزة ، ولذلك جاءت تحركات المقاومة في العراق ولبنان ضد الأهداف الأمريكية والإسرائيلية ضمن هذا السياق.
كما أعلن اليمن ومن أقصى الجنوب العربي لشبه الجزيرة العربية انخراطه وبشكل رسمي في عملية طوفان الأقصى عبر استهداف الكيان بصواريخ بالستية وطائرات مسيرة تمكنت من قطع مسافة 1800 كلم وهو ما شكل قلقاً لدى قادة الكيان وهو قلق كان يمكن تحمله إن بقي ضمن هذا الإطار، لكن تعاطف اليمن مع الشعب الفلسطيني كان أكبر من أن يقف عند هذا الحد.
اليمن يقطع عصب الكيان الاقتصادي :
بنظرة فاحصة يشكل الاقتصاد عصب الكيان والمغذي لترسانته العسكرية وهذا الاقتصاد الآتي عبر تبادل التجارة العالمية جزء كبير منها يمر عبر البحار ومنها البحر الأحمر ومضيقه باب المندب ، ولذلك كان قرار اليمن الجريء هو ما أعلنه قائد الثورة السيد “عبد الملك بدر الدين الحوثي” بتاريخ 14 تشرين الثاني إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الصهيونية التي تعبر البحر الأحمر.
وبالعودة إلى أهم السفن المتجهة للكيان والتي أعلنت اليمن استهدافها نجد أنه في يوم الأحد 3 كانون الأول الجاري أعلنت اليمن أن قواتها البحرية هاجمت سفينتين إسرائيليتين هما “يونيتي إكسبلورر” وسفينة “نمبر 9” بطائرة مسيرة مسلحة وصاروخ بحري بعد أن رفضتا التحذيرات ، وكانت هذه العملية هي الترجمة العملية لتهديد اليمن بمنع مرور السفن التي تتبع للكيان كلياً او جزئياً حتى وإن كانتا لا ترفعان علم الكيان.
الأمر ذاته حدث مع شركة “أمبري” للأمن البحري التي أعلنت أنّ سفينة شحن بريطانيّة تعرّضت لاستهداف صاروخي أثناء عبورها البحر الأحمر، ووفقاً لـ”أمبري” فإن ملكية وإدارة السفينة التي تعرضت للهجوم مرتبطتان بالمدعو دان ديفيد أونغار، وهو مواطن بريطاني مدرج كمقيم إسرائيلي في دليل الأعمال الرئيسي في المملكة المتحدة.
وفي 19 تشرين الثاني الماضي أعلن اليمن سيطرته على سفينة “غالاكسي ليدر” الإسرائيلية واقتيادها إلى الساحل اليمني، واحتجاز طاقمها المكوّن من 25 شخصاً ، في عملية هي الأولى من نوعها بعد إعلان “الحوثي” إغلاق البحر الأحمر أمام السفن الإسرائيلية إثر العدوان على غزة، ولا تزال السفينة التي كانت ترفع علم جزر باهاما والمملوكة لشركة بريطانية صاحبها رجل أعمال إسرائيلي ترسو في ميناء الحُديدة في اليمن حتى الآن.
وقع التهديد اليمني على شركات الشحن العالمية :
ونتيجة لذلك توقفت العديد من شركات الشحن العملاقة والتي تتعامل مع الكيان عن الإبحار إليه عن طريق البحر الأحمر، حيث أكدت شركة شحن الحاويات الألمانية “هاباج لويد” أنها تدرس ما إذا كانت ستوقف الإبحار عبر البحر الأحمر بعد ساعات من الإبلاغ عن تعرض إحدى سفنها لهجوم.
وفي السياق ذاته قررت شركتي شحن “MSC” والشركة الفرنسية “CMA CGM”.
وهما أكبر شركتي شحن في العالم MSC والشركة الفرنسية CMA CGM قررتا التوقف أيضاً عن الإبحار في منطقة البحر ، ويأتي اعلانهما كونهما من شركات الشحن التي تغذي حركة ميناء ام الرشراش ( ايلات) بالبضائع.
كما أن شركة “بريتش بتروليوم” النفطية وهي شركة بريطانية تُعتبر ثالث أكبر شركة نفط خاصَّة في العالم أصدرت بياناً قالت فيه :
“في ضوء تدهور الوضع الأمني للشحن في البحر الأحمر، قررت شركة بريتش بتروليوم تعليق جميع عمليات المرور عبر البحر الأحمر مؤقتاً”.
كما أصدرت شركة “إيفرجرين لاين” قراراً بتعليق الملاحة إلى الكيان عبر البحر الأحمر حتى إشعار آخر، وأوضحت أنه سيتم إعادة توجيه سفنها التي كان مقرراً لها عبور البحر الأحمر، لتمر حول رأس الرجاء الصالح.
وكذلك شركة “أورينت أوفرسيز كونتينر لاين” أوقفت عمليات قبول البضائع من وإلى الكيان حتى إشعار آخر.
وتبعتها شركة “إيه.بي مولر ميرسك” الدنماركية حيث أوقفت جميع شحنات الحاويات عبر البحر الأحمر حتى إشعار آخر، وذلك في أعقاب “حادث وشيك” تعرضت له سفينتها ميرسك جبل طارق في وقت سابق.
البعد الاستراتيجي لتهديدات اليمن :
ترجع تلك الأهمية بسبب تخديم مضيق باب المندب ومياه البحر الأحمر للتجارة العالمية، حيث يمر عبر هذا الممر المائي نحو 6.2 مليون برميل من النفط الخام يومياً، إضافة إلى نحو 30% من التجارة العالمية للغاز التطبيعي، وتمر عبر هذا المضيق 10% من إجمال التجارة العالمية ، وليس من مصلحة العالم أن يكون على هذا الممر الحيوي إشكالات أمنية قد تعيق تدفق التجارة العالمية عبر هذا المضيق الذي يبلغ عرضه 20 ميلاً (32 كم) وينقسم إلى قناتين بواسطة جزيرة بريم اليمنية، حيث يبلغ عرض القناة الغربية 16 ميلاً (26 كم) وعرض القناة الشرقية 2 ميل (3 كم).
ومع بناء قناة السويس شمال مصر، اكتسب المضيق أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة، حيث شكل جزءً من الرابط بين البحر الأبيض المتوسط وشرق آسيا وبحسب بيانات منظمة التجارة العالمية، يختصر مضيق باب المندب رحلات السفن مدة 14 يوما في المتوسط.
الكيان يختنق وعلى أبواب شلل اقتصادي:
ولأن الكيان لا يمارس أي تجارة عن طريق البر كما تفعل أوروبا على سبيل المثال، فإنها تعتمد بشكل كبير على موانيها البحرية التي يمر عبرها أكثر من 98% من تجارة البضائع الإسرائيلية، وبالنظر إلى البيانات، نرى أن تجارة الكيان قد تحولت هي الأخرى إلى دول شرق وجنوب شرق آسيا في السنوات الأخيرة، مما يعني أن تجارتها باتت تعتمد أكثر على الخطوط البحرية التي تمر عبر مضيق باب المندب وقناة السويس.
ووفقاً لموقع Globes “الإسرائيلي”، تسببت الهجمات اليمنية في البحر الأحمر في ارتفاع أسعار النقل من الصين إلى الكيان خلال أسبوع بنسبة تتراوح بين 9% و14% في الأسبوعين الأخيرين من تشرين الأول.
كما أن الأمر لا يقتصر على ارتفاع أسعار الشحن والتأمين وتغيير السفن الإسرائيلية لمسارها، بل يصاحبه أيضاً تأخيرات واختناقات مرورية بأعداد أكبر من المعتاد، إذ أبلغت شركة الشحن MSC عن اختناقات مرورية عند مدخل ميناء أشدود.
وأفادت شركة الشحن الإسرائيلية ZIM أنه بسبب “التهديدات” من اليمن، يتم تمديد مدة نقل البضائع من آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط وترتفع أسعار النقل، مما يؤثر على تكلفة النقل وبالتالي الأسعار: “إن التهديد اليمني يخيف شركات الشحن الدولية، ويجبرها على تغيير مساراتها، وبدلاً من المخاطرة بعبور مضيق باب المندب الأقصر، يفضلون الالتفاف حول القارة الأفريقية بأكملها.
وأشارت الرسائل التي أرسلتها العديد من شركات الشحن الدولية الكبرى إلى عملائها في إسرائيل إلى أن الحل البديل سوف يمدد أوقات التسليم بمقدار 18-20 يوماً، واعتباراً من 8 كانون الثاني سيتعين على العملاء دفع رسوم إضافية قدرها 50 دولاراً للحاويات مقاس 20 قدمًا 100 دولارًا للحاويات الأكبر مقاس 40 قدمًا 45 قدماً.
وقد أظهرت مؤخراً صور الأقمار الصناعية التي إلتقطت لميناء ام الرشراش ( ايلات) خلو الميناء من حركة السفن في مؤشر على حجم الشلل الذي ضرب أحد الموانئ التي تشكل عصب الاقتصاد لهذا الكيان.