تحقيق
تورطت إسرائيل بعملية التوغل البري في قطاع غزة على خلفية اندلاع معركة طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول الماضي، وبعدما رفعت سقف أهدافها إلى درجة القضاء على المقاومة الفلسطينية وتهجير سكان غزة اصطدمت بواقع تراجع الوحدات المقاتلة بعد غرقها في مستنقع القطاع وهي من قوات النخب في الجيش الإسرائيلي المعروفة بـ “لواء غولاني”.
فكان الخيار الوحيد لحكومة إسرائيل من أجل الخروج من مآزقها في الحرب هو جرّ الولايات المتحدة الأمريكية إلى الدخول مباشرة في المعركة لتخفيف القوة الضاغطة لحلفاء غزة عن العنق الإسرائيلي في الجبهات المتعددة كسوريا ولبنان واليمن والعراق، ومن أجل ذلك لجأت إسرائيل إلى عملية الاغتيالات فاستهدفت الجنرال في الحرس الثوري “رضي الموسوي” على الأراضي السورية، وكذلك القيادي في حركة حماس “صالح العاروري” على الأراضي اللبنانية.
كان الهدف من هذه الاغتيالات أن يبتدئ محور المقاومة المواجهة المباشرة مع أمريكا في المنطقة لكي تكسب أمريكا الرأي العام العالمي ومصانع القرارات الدولية لصالحها في تلك الملحمة، لكن انضباط محور المقاومة وتحركاته المدروسة وإيجاده لعبة توزيع الأدوار جعل مسرح المواجهة مختلف عن السيناريو الإسرائيلي المخطط له.
وبذلك تحول الاصطدام الأمريكي مع المحور من حجم إغراق المنطقة بصراع إقليمي كبير إلى غرق أمريكي في مياه البحر الأحمر من خلال العدوانين الأمريكيين على اليمن الذي كان آخرهما ليلة أمس حيث أعلنت أميركا بدء عملية “رمح بوسايدن” على اليمن.
ماذا يعني التدخل الأمريكي والعدوان على اليمن؟
إن العدوان الأمريكي الأخير على اليمن بكل ما يحمله من مخاطر وتداعيات نظراً لأهمية البحر الأحمر في الملاحة العالمية وموقع اليمن الاستراتيجي وإطلالته على البحر الأحمر ومضيق باب المندب يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وقعت بين نارين، فإما أن تسمح بما يهدّد كيان الاحتلال وجودياً إذا انتهت الحرب على هزيمة بائنة تلحق به، أو تجازف بما يهدّد في الصميم مشروع الهيمنة الأميركية على العالم، القائم على التفوّق غير القابل للمنافسة في حروب البحار.
وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية اختارت التدخل في معركة الطوفان وضرب اليمن لتخيف الضغط على الأمن الاقتصادي الإسرائيلي فهذا يعني أنها غامرت بمشروع السلطة الأمريكية على العالم من أجل حماية أمن إسرائيل وهذا إن دلَّ على شيء فهو يدل على المكانة التي تحظى بها إسرائيل في السياسات الأمريكية فإن الاستعداد الأمريكي للتدخل في أكثر الأماكن حساسية وخطورة على التجارة العالمية يعني أن أمريكا مستعدة لتحمّل كلّ شيء من أجل حماية إسرائيل.
الأمر الثاني الذي يجعل أمريكا تتدخل في معركة الطوفان عبر العدوان على اليمن هو أهمية البحر الأحمر كشريان مائي يستمد أهميته الإستراتيجية من موقعه الجغرافي الذي وفر للقوى الإقليمية والدولية إمكانية الوصول إلى المحيطين الهندي والأطلسي عبره.
لم تمنع المعادلة الاستراتيجية التي فرضها اليمن في باب المندب والبحر الأحمر وبحر العرب، من خلال الحصار البحري على “إسرائيل”، من حريّة الملاحة البحرية وطمأن أنصار الله في أكثر من مرة أنّ لا خطر على سفن أيّ دولة باستثناء السفن التابعة للاحتلال الإسرائيلي أو المتوجّهة إلى الموانئ الإسرائيلية، كما أشارت حركة أنصار الله اليمنية إلى أنّ الولايات المتحدة تُحاول أنّ تنشر دعاية مُغرضة مفادها أنّ من يهدد الملاحة في البحر الأحمر هو القوات اليمنية، وكل ذلك لحماية “إسرائيل” والسفن المتوجّهة إليها، الأمر الذي رفع مستوى القلق الأميركي على مصالحه والمصالح الإسرائيلية.
ماهي أسباب التدخل الأمريكي في حرب الطوفان؟
بالرغم من التنسيق الأمريكي الإسرائيلي العالي المستوى في السياسة الإسرائيلية بشكل عام وفي معركة طوفان الأقصى بشكل خاص، والدعم الأمريكي اللامحدود للجيش الإسرائيلي في المعركة إلا أنه وبعد أكثر من 100 يوم على معركة طوفان الأقصى شكّلت مجريات تلك المعركة جملة من الأسباب التي استدعت التدخل الأمريكي المباشر وعلى الأرض في المعركة وهذه الأسباب هي:
أولاً: الضربات الموجعة التي تلقاها الجيش الإسرائيلي بعد اجتياح قطاع غزة حيث ارتفع عدد الجرحى من الجنود الإسرائيليين منذ بداية معركة الطوفان إلى 2649 بينهم 1191 أصيبوا في المعارك البرية بحسب موقع جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما ارتفع عدد القتلى إلى 530 جندياً بينهم 194 بحسب المعلن عنه.
ناهيك عن العملية الأخيرة ليلة أمس للمقاومة الفلسطينية في خان يونس والتي أدت بحسب الإعلام الإسرائيلي إلى مقتل وإصابة نحو 20 ضابطاً وجندياً وذلك بتفجير مبنيين، وانهيار ثالث بقوات جيش الاحتلال المتوغلة في خان يونس.
ثانياً: إصابة الاقتصاد الإسرائيلي بحالة شلل بسبب الحصار البحري الذي يفرضه اليمن على السفن الإسرائيلية أو تلك المتوجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.
حيث قال الباحث البارز في المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي ” يوئيل جوزانسكي “: “أعتقد أن الناس لا يتحدثون بما فيه الكفاية عن التهديد الحقيقي الذي يشكله الحوثيون على “إسرائيل”، موضحاً أن “معظم التجارة الإسرائيلية ترتبط بالبحر”.
وتابع “جوزانسكي” بالقول: “لديهم ترسانة من الطائرات بدون طيار، بالإضافة إلى صواريخ كروز والصواريخ الباليستية لكن من الصعب جدًا على “إسرائيل” الرد على تهديد على بعد 2000 كيلومتر”.
كذلك، كتبت “صحيفة معاريف” الإسرائيلية: “التطورات الأخيرة في جنوب البحر الأحمر تتطلب من المؤسسة الأمنية والعسكرية والذراع البحرية الإسرائيلية تقدير وضع فيما يتعلق بطريقة العمل التي يجب اعتمادها لمنع مثل هذه العمليات في المستقبل. يجب على إسرائيل مراقبة التغيرات التي تتشكل في هذه المناطق، وبلورة سياسة تتعلق بمجالات التجارة البحرية، وحرية الملاحة وأمنها، واستغلال المجال البحري لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، وكذلك دراسة سياسة بناء القوة البحرية وتشغيلها في ساحة البحر الأحمر، والتي تزداد أهمية”.
وحول الخسائر الإسرائيلية في جبهة البحر الأحمر صرّح “نير غولدشتاين” مدير عام معهد GFI ،(The Good Food Institute Israel)، في محادثة مع صحيفة “إسرائيل هيوم”: “يتم استيراد أكثر من 70٪ من طعامنا عن طريق البحر، وبشكل رئيسي 85٪ من الماشية، إنها تصل إلينا بسفن، عبر موانئ إيلات وأشدود وحيفا. هذه الموانئ الثلاث أو الطرق المؤدية إليها مهددة من قبل أعدائنا، ويجب أن نستعد لذلك. الحوثيون يهددون الدخول إلى البحر الأحمر، الذي تصل إلينا عبره السفن القادمة من أستراليا التي تحتوي على 15٪ من واردات عجول اللحم إلى إسرائيل”.
كما أوضح “غولدشتاين” أن “القلق الاقتصادي هو من الآثار الواسعة على الشحن البحري إلى “إسرائيل”، لافتاً إلى أنه “في أعقاب الحرب، كانت هناك بالفعل زيادة كبيرة في أسعار الشحن الجوي بسبب التأثير على رحلات الشركات الأجنبية إلى “إسرائيل”، معتبراً أن “الخشية الحالية هي من زيادة موازية في تكلفة الشحن البحري أيضاً إلى “إسرائيل”، بسبب الزيادة في تكلفة التأمين أو إلغاء خطوط إلى إسرائيل.
ثالثاً: إن تعاظم قوة اليمن في البحر الأحمر وإحكام سيطرته على مضيق باب المندب تعني فرض اليمن نفسه كلاعب إقليمي في تلك المنطقة، هذا يعني معادلات جديدة يكسبها محور المقاومة يحتّم على أمريكا تقديم المزيد من التنازلات في منطقة الشرق الأوسط لصالح المحور ويعني أيضاً المزيد من التضييق على المصالح الأمريكية في تلك المنطقة.
ماهي مساوئ تدخل أمريكا في حرب الطوفان؟
هناك سببان رئيسيان يجعلان مساوئ تدخل أمريكا بضرب اليمن بهدف التأثير على مجريان طوفان الأقصى لصالح إسرائيل تعود على أمريكا دون اليمن وهذان السببان هما:
أولاً: ليس لدى اليمن مراكز حيوية تستهدفها الإدارة الأمريكية وذلك لأن كل مراكزه الحيوية استهدفت بالفعل أيام حربه مع السعودية.
ثانياً: ليس لدى اليمن أي منظومة عسكرية مكشوفة فوق سطح الأرض كمصانع مسيرات أو صواريخ وغيرها بحكم أنه بلد تعرض للقصف الشديد منذ عام 2015 بحربه مع السعودية وبالتالي أقام كل احتياطاته اللازمة لحماية قوته العسكرية.
أما بالنسبة لأمريكا فهناك الكثير من المساوئ التي ستلحق بها جراء تقوقعها في مستنقع البحر الأحمر وهي:
أولاً: مخالفتها قرارات مجلس الأمن فهو لم يعط الضوء الأخضر لأمريكا بالاعتداء على اليمن.
ثانيا: تورط أمريكا في حرب مع اليمن سيكون له تبعاته على أوكرانيا فإن حجم الدعم الأمريكي والغربي سيتراجع لصالح جبهة البحر الأحمر وبالتالي ستصبح أوكرانيا لقمة سائغة لروسيا وما بعد أوكرانيا سيكون تحكم روسي باقتصاد الدول الأوربية، وتدرك روسيا بالأرقام حجم الفوائد التي حققتها من تراجع تدفق الذخائر النوعية على أوكرانيا نظراً لحاجة جيش الاحتلال الإسرائيلي اليها، وعجز الغرب كله عن تلبية الحاجتين معاً.
ثالثاً: قضية تايوان التي تدخل أمريكا في منافسة شرسة مع الصين في الهيمنة على تايوان وإن أي انغماس أمريكي في معارك البحر الأحمر مع اليمن ومحور المقاومة يعني خسارة أمريكا لتايوان أمام الصين التي ستجدها فرصتها الذهبية لكسب التحدي.
رابعاً: جرب الجيش الأمريكي من قبل العسكرة في مستنقعات الشرق الأوسط وما لها من وبالات لا تحمد عقباها وإلى الآن لم يجرج الجيش الأمريكي بنتيجة سواء من احتلاله العراق أو أفغانستان أو أجزاء من سوريا، واليوم، تتشتت جهود الإدارة الأمريكية بين ملفات كبيرة على الطاولة، حرب غزة وحرب البحر الأحمر، وبنسبة تتصاعد تدريجياً لحرب جنوب لبنان، كذلك حرب إخراج القوات الأميركية من العراق وسورية، فهل ستكون واشنطن قادرة على إدارة كل أزماتها المتفاقمة في الشرق الأوسط؟
تداعيات التدخل الأمريكي في الطوفان والعدوان على اليمن
أولاً: إن فتح أمريكا جبهة البحر الأحمر يعني تحويل أهم الممرات الاقتصادية العالمية وطريق الملاحة الدولية إلى منطقة صراع وبالتالي سينعكس سلبا على الاقتصاد العالمي الذي أنهكه بالأساس التدخل الأمريكي في أوكرانيا والعقوبات التي فرضتها على روسيا وبذلك فإن أمريكا ستواجه انتقادات عالمية شديدة وستخسر التأييد العالمي لسياساتها.
ثانياً: ستخسر أمريكا شيئاً آخر أهم بكثير مما سواه وهو الهيبة الأمريكية ومكانة أمريكا في رأس هرم السلطة العالمية.
ذلك لأن دولة عظمى متل أمريكا لم تكن تقرأ في حساباتها أصلا الكثير من دول المنطقة التي تسميها في ثقافتها بالدول النامية كيف لها اليوم أن تصنف ضمن أولوياتها مواجهة ومقارعة دولة صاعدة حديثاً مثل حكومة أنصار الله وبعدما تعرضت لمعارك طاحنة من سنوات طويلة؟!
وفي حال خسرت أمريكا في اليمن وحصل ما كان متخوفا منه واستطاع اليمنيون أن يفوا بوعودهم كما قالوا ويمرغوا أنف أمريكا بالوحل فعلاً، فإن ذلك سيكون له ارتدادات عالمية خطيرة على مكانة أمريكا في العالم:
أولاً: حين تصبح الإرادة اليمنية نموذجاً ومن قبله الإرادة السورية والعراقية فإن أي دولة في العالم تعاني من الهيمنة الأمريكية تدخلاتها المستمرة في شؤون تلك الدول فإنها ستفكر في كسر اليد الأمريكية العابثة في بلادها ورفض تبني مصالحها على حساب المصالح الوطنية لتلك الدول وسنجد هناك حركات تمرد دولية لصالح المصلحة الوطنية والاستقلالية كما في أمريكا اللاتينية كفنزويلا وكما في البرازيل والصين والأكوادور ودول أفريقيا وآسيا.
ثانياً: إن الدول والجيوش والعروش الطامعة بالحماية الأمريكية ستبدأ بالتوجس والتشكيك من قدرة أمريكا على حمايتها بالفعل وبالتالي ستحسب ألف حساب قبل أن تتبنى سياسات أمريكا المؤذية لمصالح تلك الدول ومصالح المنطقة ككل لأنها إن تذوقت مرارة خسارة أمريكا في اليمن فهي تعلم أن أي معارضة داخلية أو انقلاب أو تمرد فإن أمريكا غير قادرة على حماية عروشها، كذلك في أي مواجهة لتلك الدول مع دول المنطقة الرافضة للهيمنة الأمريكية.
ومع كل تلك المخاطر والمساوئ والتداعيات تفضل الإدارة الأمريكية التفريط بكل أوراقها من أجل حماية وجود إسرائيل، ذلك لأن وجود إسرائيل ككيان محتل في قلب الشرق الأوسط مرتبط بالوجود الأمريكي في العالم وهيمنته، فخسران أمريكا وجود إسرائيل يعني خسرانها السلطة على الشرق الأوسط ويعني بطبيعة الحال خسران التقاطع الاقتصادي البري الجوي البحري العالمي والتي تحتاجه كل حلفاء أمريكا من أجل الموارد الأمر الذي يجعل أمريكا تصارع بشراسة من أجل الوجود الإسرائيلي في فلسطين.